لم تكن ​اسرائيل​ يوماً مهتمة كثيراً بالموقف الاوروبي منها، كونها تنظر الى القارة العجوز على انها "مدينة" لها بالكثير والاهم بما تعتبره "ذنباً لا يغتفر" تسببت به لها ​المانيا​، وجعلت الدول الاوروبية تشعر بعقدة الذنب، علماً ان شعوب هذه الدول قاسوا وعانوا ما لا يمكن احتماله وتبريره من قبل المانيا وزعيمها النازي في ذلك الحين ادولف هتلر، لذلك شكلت الدول تحالفات مع ​اميركا​ و​روسيا​ والعالم لمحاربته ووضع حد لغزواته وطموحاته التوسعية.

"الفوقية" التي تعاطى معها المسؤولون الاسرائيليون مع ​اوروبا​، غذتها العلاقات المتميّزة بينهم و​الولايات المتحدة الاميركية​ على مرّ عقود من الزمن، حيث كانت ​واشنطن​ الغطاء الرسمي وبوابة الدخول الاسرائيلي الى العالم، وهو امر لم يكن متوافراً لاي دولة اخرى، فتمتع الاسرائيليون برفاهية في كل الدول الغربية التي حلّوا بها، بفضل الاميركيين. اليوم، بدأت اوروبا مرحلة جديدة في التعاطي مع ​الادارة الاميركية​، وبفعل التداعيات التي حصلت في ​الشرق الاوسط​، والانسحاب الاميركي من مدّ يد العون للاوروبيين في اكثر من مسألة سياسيّة ودبلوماسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة، استفاق الاوروبيون على خطة جديدة تقضي بالاعتماد على انفسهم اكثر فأكثر بدل الارتماء في الاحضان الاميركيّة، مع كل ما يعنيه ذلك من اعادة نظر بقرارات كانت تتخذ عنهم في كثير من الاحيان، او بشكل تلقائي دون تفكير وفقاً للنفوذ الاميركي الذي كان يمارس.

شيئاً فشيئاً، بدأت أوروبا الابتعاد قليلاً عن الاسرائيليين، صحيح ان الخطوات لا تزال خجولة وغير مجدية او مؤثرة، ولكن بمجرد ارتفاع اصوات تندّد بالاسرائيليين وبجرائمهم ضد الفلسطينيين وغيرهم، فإنه يمكن البناء على أسس ثابتة لتوخّي آمال لا تزال بعيدة بالوصول الى ما يعيد الحق لاصحابه ويضع الامور في نصابها الصحيح بالنسبة الى العلاقة بين القارة العجوز ودولة أُقيمت وفق الامر الواقع وبدعم دولي على حساب شعب، لا بل شعوب لم تقبل يوماً بهذا الواقع المفروض.

وقد يكون الرئيس الاميركي ​دونالد ترامب​ أحد أبطال هذا الانجاز، بفضل السياسة التي يتّبعها والتي تبعد بلاده عن العديد من الدول، وفي مقدمها اوروبا، وقد أدّى هذا التباعد الى إعادة طرح الصوت عن أوروبا القوية. ولا شك أن هذا التمايز بين القارة واميركا، اثّر على علاقة الاولى مع اسرائيل، وهو أمرٌ بدأ المسؤولون الاسرائيليون يعون احتمال تصاعده ونموّه، ولعل هذا ما دفع بوزير الطاقة الإسرائيلي يوفال شطاينتس الى مهاجمة ​الاتحاد الأوروبي​ الذي طالب بالتحقيق في كسر قدم أحد نشطاء حقوق الإنسان، ووصل هذا الهجوم الى مرحلة غير مسبوقة عندما دعا شطاينتس الاتحاد الى "الذهاب الى الجحيم". هذه العبارة تحمل في طيّاتها بداية تغيير المزاج في أوروبا ولدى المسؤولين الاسرائيليين على حد سواء، فبدت الدول الاوروبية وكأنها استفاقت حديثاً من سبات عميق وبدأت تخطو خطواتها الاولى نحو التحرر من نير القرارات المفروضة عليها بالنسبة الى اسرائيل، فيما لم يتقبّل الاسرائيليون هذا الامر ورأوا فيه بمثابة تحدٍّ لنفوذهم وطريقة تعاطٍ "مسيئة" اليهم، وهم الذين يتسلحون بسلاح اللاسامية كلما اضاء احد على خطأ او جريمة ارتكبوها ويعيدون التركيز على انهم "مظلومون" و"ضحايا" متناسين المجازر اتي ارتبكوها ولا يزالون بحق الفلسطينيين واللبنانيين وغيرهم...

السؤال المطروح اليوم هو: هل اصبح لدى الجانبين الوعي الكامل للاعتراف بأن العلاقة بينهما كانت محظورة، وانها كانت قائمة ومستمرة بفعل الرابط الاميركي فقط لا غير، ومع بدء تلاشي هذا الرابط، سيكون من الصعب الإبقاء على هذه العلاقة حيّة ومستمرة، وسيكون على الطرفين اعادة النظر بها فيما الرابط الاميركي سيبقيهما معاً قدر الامكان انما بفاعلية اقل من السابق.

لن تكون مجريات هذا الموضوع سريعة بطبيعة الحال، ولكن الخطوة الاولى على طريق الالف ميل بدأت، وليس هناك من يوقفها حالياً.