بعد طي ملف ​الإرهاب​ في الداخل السوري واكتمال تحرير النطاق ​الأمن​ي اللصيق بدمشق في أحيائها وريفها وجوارها، ثم استكمال تحرير ما تبقى من مناطق في أرياف حمص الشمالي وحماة ​الجنوب​ي وانكشاف اللوحة الميدانية السورية على مشهد جديد لم يكن قائماً منذ سبع سنوات تقريباً، مشهد فيه القول بأن وحدها القطاعات الحدودية هي التي لا زالت تعاني من الإرهاب والاحتلال الأجنبي وأن معركة التحرير واستعادة السيطرة عليها أمر لا بدّ منه في سياق حرب الدفاع العامة التي خاضتها سورية مع حلفائها بعد أن فرضت عليها تلك الحرب الكونية العدوانية التي قادتها ​أميركا​ ومعها جمع متفاوت في مستوى المشاركة والتأثير بلغ في لحظة من اللحظات 131 دولة أسمت أنفسها زوراً بأنها «أصدقاء ​الشعب السوري​»، في حين أنها لم تكن إلا لقتل الشعب السوري أو تشريده بعد هدم سورية وتفتيتها وإفقادها دورها القومي ومنعها من ممارسة دورها الاستراتيجي الذي يؤهلها لها موقعها الجيوسياسي.

اذن سورية وفي المرحلة التي وصل إليها قطار التحرير واستعادة السيطرة على الأرض السورية، كامل الأرض السورية، ​القطار​ الذي انطلق ودون توقف منذ تحرير حلب قبل نيّف وسنتين، وضع سورية أمام مهمة إعادة تنظيم جدول أولويات العمل التطهيري والتحريري، بخاصة أن قواتها التي حققت الإنجازات الكبرى في حرب سحق الإرهاب وتحرير الأرض منه، أصبحت ممتلكة فائضاً من القوة مكّن ​قيادة الجيش​ و​القوات​ المسلحة من اتخاذ القرار بتسريح الدفعة 102 من المجنّدين وهو التسريح الذي تأخّر سبع سنوات، وفقاً لما فرضته متطلبات عسكرية ظهرت يوم اندلعت شرارة الحرب عليها.

ومع فائض القوة هذا بات للقيادة السورية أن تختار واحداً أو أكثر من القطاعات الأربعة المتبقية خارج سيطرة الدولة للاتجاه إليها بالأولوية التي احترفت سورية وضع جدولها خلال السنوات الماضية. ونعني بهذه القطاعات كلاً من الشمال الغربي إدلب ومحيطها والشمال الشرقي منطقة شرقي الفرات والجنوب الشرقي التنف ومحيطها والجنوب الغربي درعا ومحيطها . أولويات تحدّد على ضوء ما لهذه المناطق من خصوصية وارتباط مباشر بتدخل أجنبي عدواني، علماً أن أميركا حاضرة في ثلاث منها بشكل مباشر. هذا إن لم نقل في الرابعة أيضاً، بخاصة بعد أن أعلنت أميركا نيتها وقف الدعم للقوات الإرهابية العاملة في إدلب ومنطقتها.

فأميركا موجودة في القواعد العسكرية التي أنشأتها في الشمال الشرقي والجنوب الشرقي، وأميركا تُعتبر جزءاً من منظومة رعاية منطقة خفض التوتر التي أنشئت لتضمّ منطقة درعا ومحيطها. وهي المنطقة التي تشكّلت خارج مخرجات أستانة وخارج رعاية ثلاثي أستانة ​روسيا​ و​إيران​ و​تركيا​ ، حيث كان إنشاؤها محصوراً بكل من روسيا وأميركا وألحقت ​الأردن​ بهما وكان ذلك بعلم ​الحكومة السورية​.

لقد واجهت سورية موضوع تحرير المناطق الأربع، بالجدّية والحزم الذي تميّز بهما أداؤها في عمليات التحرير التي انطلقت بشل تصاعدي تراكمي من دون أن يكون فيه أي ثغرة. واتجهت لوضع استراتيجية تحرير لكل منها وفقاً لطبيعتها وظروفها وحيثياتها. ويبدو أن منطقة الجنوب ستتقدّم على ما سواها لأكثر من اعتبار. ولهذا وجّهت الحكومة السورية إنذاراً للمسلحين ودعت المدنيين للابتعاد عنهم في المناشير التي ألقتها الطائرات السورية.

فمن جهة تعتبر المنطقة الجنوبية آخر منفذ للتدخل الإسرائيلي المباشر في سورية بعد أن بترت اليد الإسرائيلية في محيط دمشق بتحرير الغوطتين و​القلمون​. وفي منطقة الجنوب تستمرّ فاعلة ​جبهة النصرة​ الإرهابية التي تتلقى الدعم والإسناد المتعدد الوجوه من «إسرائيل». وفي منطقة الجنوب تقوم عقدة الاتصال البري مع الأردن ومنفذ المواصلات الدولية الهام بالنسبة للاقتصاد السوري، فضلاً عن أن استعادة المنطقة تعني وبكل بساطة عودة الوضع في ​الجولان​ السوري المحتل إلى ما كان عليه قبل اندلاع العدوان على سورية. ما يعني إسقاط مشاريع الأحزمة الأمنية الإسرائيلية في ظل تصاعد السعي الإسرائيلي للاستحصال على اعتراف أميركي بالسيادة الإسرائيلية على الجولان السوري المحتل. وهكذا ورغم أن القرار بالتحرير والتطهير قرار يشمل كل أرض سورية وتعلم أميركا ذلك، إلا أن تقدّم الجنوب كأولوية تنفيذية له ما يبرره الآن كما ذكرت.

بيد أن أميركا التي تخشى وترفض نتائج القرار السوري لتعارضه مع استراتيجيتها في سورية القائمة على «إطالة أمد الصراع» بادرت إلى إرسال رسائل تحذيرية ميدانية وسياسية وإعلامية تترجم هذه الاستراتيجية التي اعتمدتها منذ اللحظة التي أيقنت فيها أن مشروعها وعدوانها على سورية فشل في تحقيق أهدافه، لذلك كانت قذائفها في ​البوكمال​ ضد معسكر الدفاع عن سورية ودعمها لداعش في الإغارة على مراكز سورية وحليفة في المنطقة الشرقية بمثابة العمليات الاستباقية التي تريد منها إبلاغ سورية وحلفائها بأن أميركا غير موافقة على أي عمل يؤدي إلى إنهاء داعش في المنطقة الشرقية أو يؤدي إلى إنهاء الوضع الكردي الشاذ في كامل المنطقة، وأرفقت هذه العمليات العدوانية بتحذير مباشر وجهته لسورية يطالبها بالامتناع عن فتح معركة الجنوب التي تدّعي أميركا أنها طرف في هدنة قائمة فيها وترفض خرقها.

لكن سورية التي احترفت دوس الخطوط الحمراء التي ترسمها أميركا على الأرض السورية، لن تتوقف هذه المرة أيضاً عند خط جديد يرسم لها بشكل عدواني منتهكاً السيادة السورية بشكل مطلق. بخاصة أن أميركا التي تدّعي وجود منطقة خفض التوتر عليها أن تعلم وتلتزم بمقتضيات المفهوم الصحيح لهذه المناطق التي ما كانت سورية لتقبل بها لو كانت متعارضة مع هذا المفهوم.

فمناطق خفض التوتر التي ولد مفهومها في أستانة تعني الدخول في مرحلة انتقالية وإقامة جسر عبور المنطقة من مرحلة الاحتراب والقتال، إلى مرحلة السلام والأمن الشرعي. وهو عبور يمرّ بمرحلتين ضروريتين الأولى وقف المواجهة بين القوى التي تؤمن بالحل السياسي وتوافق عليه قبول يترافق مع عملية فرز القوى الخارجة عن سيطرة الدولة بين إرهابي متعنت ومسلح متراجع عن القتال وموافق على العمل السياسي من دون العسكري، اما الثانية فهي إخراج القوى الإرهابية من المنطقة التي تتم إعادتها إلى كنف الدولة عبر المصالحات المنظمة. وهذا هو المفهوم الذي اعتمدته سورية والذي على أساسه وافقت على منظومة خفض التصعيد.

إما أميركا، فإنها تريد من مناطق خفض التوتر إيجاد وضع خاص لمناطق معينة تكون تحت سيطرتها المقنعة وتمنع الدولة من استعادتها إلى كنفها الشرعي من أجل اتخاذها ورقة تلعبها في سياق البحث عن حل سياسي للازمة ويضمن لأميركا حصة فيه تشكل جائزة ترضية لها بعد فشل مشروعها العدواني في سورية.

بين هذين المفهومين يقع التجاذب في المنطقة الجنوبية، وترى سورية أن عدم تنفيذ الفريق الآخر موجباته المتعلقة بعملية الفرز وإخراج الإرهابيين من جبهة النصرة، والادعاء بأن ​الجماعات المسلحة​ المنتشرة في المنطقة ليست إرهابية، كل ذلك من شأنه أن يسقط الاتفاق حول المنطقة ويسلخ عنها حصانة مناطق خفض التوتر ويضع أميركا أمام أحد خيارين إما التنفيذ الصادق الذي لم تتعوّد عليه أو انتظار عملية عسكرية تعرف سورية وحلفاؤها كل حلفائها، كيف يتمّ تنفيذها ليتكرّر مشهد ​الغوطة الشرقية​ في الجنوب وعندها تتحقق المصالح السورية الاستراتيجية الآنفة الذكر. اما القول بأن هناك خطاً أحمر أميركياً يحتمي به الإرهاب ويحقق مصالح أميركا في سورية، فهو قول لا محلّ له في ميدان اعتاد على إنتاج الانتصارات السورية.