ظاهرة الإشتباكات المُسلّحة بين الحين والآخر، والتي تتركّز في مُحافظة "بعلبك-الهرمل" أكثر من غيرها من المناطق ال​لبنان​يّة، والتي بلغت في الأيام الماضية مرحلة مُتقدّمة على مُستوى الفلتان ​الأمن​ي وضرب هيبة ومصداقيّة الدولة وترويع الناس الآمنين في منازلهم، تعود إلى العديد من الأسباب، إن القديمة أو ​الجديدة​. فما هي أبرز هذه الأسباب، وهل من أمل بمُعالجة قريبة لهذه الظاهرة الخطيرة؟.

بداية، لا بُدّ من الإشارة إلى أنّ البعض يعزو هذا الفلتان إلى الإهمال اللاحق بهذه المنطقة، وإلى إنتشار ​العشائر​ فيها، وهذه تبريرات غير صحيحة، لأنّ الإهمال يطال العديد من المناطق في لبنان، وحال ​الفقر​ والعوز مُنتشرة ليس فقط في مُختلف أطراف الخريطة اللبنانية إنّما في العديد من المناطق في عُمق هذه الخريطة، من دون أن نشهد "سيناريوهات" شبيهة بما يحصل في "بعلبك-الهرمل". والتحجّج بالتفكير العشائري غير صحيح أيضًا، لأنّ العشائر الحقيقيّة هي جماعات مُنضبطة وتتقيّد بالعديد من القيم الإنسانيّة والأخلاقية، وهي لا تلجأ إلى العنف إلا في حال إنسداد أفق التسوية التي تعيد الإعتبار المَعنوي للضحيّة ولعائلتها، وحتى عند اللجُوء إلى الشدّة والقُوّة للإنتقام في بعض الأحيان، يتمّ الأمر وفق ضوابط مُحدّدة معروفة من قبل مُختلف أبناء العشائر الحقيقيّين، بينما ما نشهده حاليًا من ظواهر شاذة بعيد كل البُعد عن أدنى الأخلاقيّات العامة، حيث نقع يوميًا على عمليّات سطو مُسلّح وخطف لأبرياء وحتى لأطفال، وعلى عمليّات قتل عن طريق الغدر والتنكيل، وعلى عمليّات إستقواء على الضُعفاء وترويع للآمنين... وهذه كلّها مُمارسات بعيدة كل البُعد عن تقاليد العشائر التي هي بريئة من هذه الآفات والجرائم الشاذة!.

وبالتالي، ما يحصل في ​البقاع​ هو ناتج عن عصابات مُسلّحة، تحتمي بستار الدين والطائفة والمذهب وربما العائلة في بعض الأحيان، وبستار التموضع السياسي والإنتماء الحزبي في أحيان أخرى، لتغطية مُمارساتها الجرميّة الرامية إلى جمع مال الحرام في أغلبيّة الأوقات. وهذه العصابات لا تتردّد بالتقاتل في ما بينها من وقت لآخر، لترويع ولإخضاع خُصومها تارة، ولمحاولة فرض نُفوذها في مناطق مُحدّدة طورًا. وما يحصل من تقاتل بين أفرادها يعود إلى إعتبارات شخصيّة ضيّقة، وكذلك إلى إعتبارات أوسع مُرتبطة بمصالح العصابات التي ينتمي إليها هؤلاء المُسلّحين الخارجين على القانون. وهؤلاء الزعران يستقوون بسلاحهم غير الشرعي والذي لا يقتصر على السلاح الفردي، بل يشمل أيضًا السلاح المُتوسّط وأكثر من ذلك أحيانًا، وهم يحتمون بشبكات جرميّة مُنظّمة، وبمخبرين مُرتشين أيضًا، بحيث يكشفون أي مُداهمة أمنيّة قبل حُصولها، ويستفيدون من مُساعدة خارجيّة تُنظّم فرارهم الظرفيّ بهدف إفشال مُحاولات الإعتقال في مهدها. كما أنّهم يوزّعون بعض الفُتات مِمّا يسرقونه أو يسطون عليه أو يكسبونه من مال حرام، على بعض المعوزعين، للظُهور بموقع مُناصرة المظلومين ولكسب التعاطف الشعبي.

إشارة إلى أنّه في بعض المُسلسلات المشهورة على شاشات التلفزة، يتمّ تسليط ​الضوء​ على فئات مُحدّدة من المُجتمع غارقة ب​جرائم القتل​ والثأر وتهريب الأسلحة والإتجار بالمُخدرات والمَمنوعات على أنواعها، بحجّة الإضاءة على واقع قائم وتوصيفه. لكنّ ما يحصل عمليًا، هو تعميم ثقافة فاسدة على جميع المُشاهدين، وتحويل بعض الزعران ورؤساء العصابات والزُمر المُسلّحة، إلى أبطال وإلى مثال أعلى للجيل الشاب!.

وفي الختام، لا بُد من التشديد على أنّ مُعالجة الفلتان الأمني في "بعلبك-الهرمل" أو سواها من المناطق، يبدأ بتوصيف القتلة ومُهرّبي الأسلحة والمُتاجرين بالمُخدّرات والمَمنوعات بأسمائهم الحقيقيّة وبالصفات التي تليق بهم، وخُصوصًا بالتشديد على أنّ كلمة "بُطولة" براء منهم بشكل تام! وهذه المُعالجة تمرّ حُكمًا بسلسلة من الإجراءات الحياتية والمعيشية والإجتماعيّة التي تعيد للبناني قيمته المعنويّة والإنسانيّة في مُختلف المناطق اللبنانيّة، ولا تنتهي عند قرار سياسي-أمني باعتقال أي مُخلّ بالأمن وأي أزعر وأي مطلوب، مهما إستلزم الأمر من قُوّة، وبالتأكيد من دون أي مُساومات أو إعتبارات سياسية أوحزبيّة أو مذهبيّة، إلخ. طالما أنّ مُختلف القوى السياسيّة والحزبيّة والدينيّة تُطالب بأن تفرض الدولة هيبتها، وهي ترفع تغطيتها عن هؤلاء المُجرمين والزعران!.