لا يختلف إثنان أنّ موازين القوى العسكريّة في ​سوريا​ لم تنقلب لصالح النظام السوري إلا بعد التدخّل العسكري الروسي المُباشر، لأنّ تدخّل ​إيران​ والميليشيات الحليفة لها إلى جانب الجيش السُوري قبل التدخّل الروسي، لم ينجح إلا في حماية أجزاء مُحدّدة من سوريا، وفي إسترداد مناطق معيّنة أيضًا. واليوم، وبعد خسارة القوى المُعارضة للنظام السوري، وفي الوقت الذي تستكمل فيه إيران-بمُساعدة من قوّات غير نظامية مُوالية لها من جنسيات مُختلفة، بناء بنية عسكرية مُتكاملة في سوريا بشكل يُهدّد أمن ​إسرائيل​ بشكل مباشر، وفي الوقت الذي تجهد تل ابيب عبر تنفيذ هجمات صاروخيّة بين الحين والآخر لتأخير إستكمال هذه البنية، فاجأت ​روسيا​، وعلى لسان وزير خارجيّتها سيرغي لافروف، الجميع، بإعلانها ضرورة إنسحاب كل القوّات الأجنبيّة المُتواجدة في سوريا من منطقة خفض التوتّر الجنوبيّة في أسرع وقت مُمكن. فما هي خلفيّات هذا القرار، وماذا يعني تنفيذه؟.

بحسب خبراء غربيّين في شؤون الشرق الأوسط، إنّ كلاً من الرئيس الروسي ​فلاديمير بوتين​ ورئيس الوزراء الإسرائيلي ​بنيامين نتانياهو​ توافقا خلال إجتماعهما في موسكو في 9 أيّار الماضي على سلسلة من الإجراءات الواجب إتخاذها لمنع إنجرار منطقة الشرق الأوسط إلى حرب عسكريّة شاملة. وأضاف هؤلاء أنّ مُحادثات وزير الدفاع الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان مع نظيره الروسي سيرغي شويغو في العاصمة الروسية أيضًا في الساعات الماضية، جاءت إستكمالاً لمحادثات بوتين-نتانياهو، وللإتفاق على التفاصيل التنفيذيّة للإجراءات التي جرى التوافق عليها. وتبعًا للمعلومات المُتوفّرة في هذا الشأن، إنّ الإتفاق الروسي-الإسرائيلي يقضي بما يلي:

أوّلاً: تقديم روسيا ضمانات بعدم تعرّض إسرائيل لهجمات صاروخيّة من داخل الأراضي السُوريّة، وبعدم حُصول إحتكاكات عسكريّة حُدوديّة حتى في هضبة الجولان السوري المُحتلّ.

ثانيًا: عمل روسيا على سحب كل القوى العسكرية غير النظاميّة المُنتشرة في الجنوب السوري، وفي مناطق حُدوديّة قريبة من مواقع الجيش الإسرائيلي، على أن تحلّ مكانها وحدات من الجيش السُوري.

ثالثًا: عمل روسيا على الضغط على إيران لحثّها على وقف تطوير بنية عسكريّة وأمنيّة من شأنها تهديد إسرائيل من داخل الأراضي السورية، والطلب من الخبراء والأمنيّين الإيرانيّين إخلاء المنطقة.

رابعًا: عدم تدخّل إسرائيل لصالح القوى المُسلّحة المُعارضة في الجنوب السوري، وترك الجيش السوري يتقدّم باتجاه التنف وكامل المنطقة الحُدوديّة الشماليّة لإسرائيل.

وبحسب الخبراء الغربيّين في شؤون الشرق الأوسط أنفسهم، إنّ الرئيس الروسي مارس ضغطًا على الرئيس السوري ​بشار الأسد​ خلال إجتماعهما في سوتشي في 17 أيّار الماضي، بشأن ضرورة منع إنزلاق منطقة الشرق الأوسط إلى حرب واسعة، وضرورة العمل على وقف إستدراج إسرائيل للحرب. ولم يتردّد بوتين آنذاك في التصريح علنًا أنّه "بعد نجاح الجيش السُوري في مُواجهة الإرهاب وبدء عمليّة سياسيّة في البلاد، فإنّ القوات الأجنبيّة ستبدأ بالإنسحاب من الأراضي السُوريّة". في المعلومات أنّ روسيا تعمل حاليًا مع كل من الولايات المتحدة الأميركية والأردن لتأمين سحب المُسلّحين المُعارضين من الجنوب السوري، بموازاة إنسحاب القوى المُسلّحة المُوالية لإيران والداعمة للنظام السُوري، من المنطقة نفسها.

إشارة إلى أنّ هذه المسألة حسّاسة بالنسبة إلى إيران، لأنّ سحب قوّات "فيلق القُدس" ووحدات "​حزب الله​" و"لواء فاطميّون" وقوات "النُجباء" و"لواء الأبدال" من الجنوب السوري، من شأنه سحب ورقة ضغط عسكريّة-أمنيّة مُهمّة من يد "محور المُقاومة والمُمانعة" بوجه إسرائيل. لكنّ روسيا التي كان لها الفضل في قلب موازين القوى العسكريّة في سوريا، تُقدّم مصالحها ونفوذها في الشرق الأوسط على أيّ شيء آخر، وهي تعلم أنّ بقاء الأمور على ما هي من إحتكاكات عسكريّة مباشرة بين القوّات الإسرائيليّة والإيرانية على الأراضي السُوريّة، وبهذه الوتيرة المُتصاعدة، من شأنه أن يُفجّر الوضع برمّته، وأن يُفقد بالتالي روسيا ورقة غالية الثمن، عملت جاهدة على مدى ثلاث سنوات لأن تكسبها، وهي ورقة التفاوض شبه مُنفردة بشأن الوضع النهائي لسوريا. وليس بسرّ أنّ روسيا حريصة على علاقاتها مع إسرائيل، بقدر حرصها على علاقاتها مع باقي القوى الإقليميّة، علمًا أنّها أيضًا في صراع نُفوذ مفتوح مع إيران في سوريا.

في الختام، الأكيد أنّ موسكو لن تُقدّم مصالح "تل أبيب" على مصالح كل من دمشق وطهران في سوريا، لكنّها في الوقت عينه لن تعرّض المصالح الروسية المباشرة في منطقة الشرق الأوسط لأي خطر، وستعمل على تنفيذ تعهّداتها إزاء إسرائيل لجهة منع تعرض هذه الأخيرة لهجمات صاروخيّة من الداخل السُوري، لأنّ الوجود العسكري الروسي في سوريا هو للدفاع عن مصالح موسكو في المنطقة أوّلاً، ولضرب الجماعات الإرهابيّة ثانيًا، لكن من دون توفير الغطاء لأي مشاريع إقليميّة أخرى ولا لأي مشاريع عسكريّة-أمنيّة تُهدّد الأمن الإسرائيلي، وتُعرّض المصالح الدَوليّة الروسية للخطر.