على مدى الأيام الماضية، انشغلت البلاد بما سُمّيت بـ"فضيحة" ​مرسوم التجنيس​، الذي اتُهِم الموقّعون عليه، من رئيس الجمهورية العماد ميشال عون إلى رئيس الحكومة ​سعد الحريري​ مروراً بوزير الداخلية ​نهاد المشنوق​، بـ"تهريبه" في الخفاء والسرّ، في وقتٍ كان لافتاً تركيز الحملات المعارضة للمرسوم على وضع رئيس الجمهورية في قفص الاتهام، فيما حُيّد "​تيار المستقبل​" الذي التزم بدوره الصمت.

وانطلاقاً من هذا "المرسوم" بالتحديد، خرجت إلى الضوء بشكلٍ شبه رسميّ ما يمكن تسميتها بـ"نواة معارضة العهد"، التي كان مُنتظراً أن تبدأ بالتشكّل مع تقدّم مفاوضات تشكيل الحكومة وليس منذ الآن. وبدا واضحاً من معطيات الساعات الأخيرة أنّ كلاً من "​القوات اللبنانية​" و"​حزب الكتائب​" و"​الحزب التقدمي الاشتراكي​" حجزوا مقاعدهم فيها، ومن خلفهم بعض المجموعات الأخرى، وفي مقدّمها "​تيار المردة​"، وإن حافظت نسبياً على صمتها بانتظار نضوج الأمور أكثر.

إزاء ذلك، تُطرَح علامات استفهام بالجملة، فهل يمكن القول إنّ مرسوم التجنيس سرّع الولادة الرسمية لمعارضة العهد الموعودة؟ وهل يمكن الحديث أصلاً عن معارضة موحّدة ومنسجمة، أم أنّ الأمر لا يعدو كونه سباقاً على المزايدات التي ثبت أنها مفيدة شعبوياً؟!.

فرصة لا تفوَّت؟

إذا كان كلٌ من "القوات" و"الكتائب" و"التقدمي الاشتراكي" باشر، بالإضافة إلى آخرين، الاستعداد من أجل التموضع في خانة "معارضة العهد" لاعتباراتٍ كثيرة بدأت بالظهور منذ ما قبل ​الانتخابات النيابية​ وتكرّست بفعل حملاتها وملابساتها فضلاً عن نتائجها، فإنّ ما لا شكّ فيه أنّ مرسوم التجنيس شكّل بالنسبة لهؤلاء ولغيرهم فرصة لا تُفوّت ليدلوا بدلوهم، بل وليسجّلوا النقاط التي يمكن توظيفها شعبياً على العهد وما يمثّل.

وفي هذا السياق، يمكن القول إنّ المرسوم من حيث المبدأ أولاً، ومن ناحية الشكل الذي خرج به، والغموض الذي اكتنفه ولا يزال، وجعل التشكيك به منطقياً وبديهياً، سمح لخصوم العهد ومعارضيه على اختلافهم وتنوّعهم، بتلقف الفرصة للإعلان عن أنفسهم وكسب التعاطف الشعبي في الآن نفسه، باعتبار أنّهم استطاعوا أن يضربوا على "الوتر الحسّاس" الذي لطالما شكّل "هاجساً أساسياً" بالنسبة للعهد والمحسوبين عليه، خصوصاً في ما يتعلق بموضوع ​النزوح السوري​، وهو ما ظهر من التسريبات التي تحدّثت عن أنّ غالبية المجنَّسين هم من السوريين، سواء من الحلقة الضيّقة للرئيس ​بشار الأسد​ كما قيل، أو من رجال الأعمال والمعارضين. ولا شكّ في هذا الإطار، ومن هذه الزاوية بالتحديد، أن بعض القوى، وخصوصاً "القوات اللبنانية"، وجدت في ذلك مناسبة لـ"الثأر" بعدما وضعها "​التيار الوطني الحر​" في "قفص الاتهام" في موضوع مقاربة النزوح، من خلال الحملة التي شنّها عليها أخيراً وزير الخارجية في حكومة تصريف الأعمال ​جبران باسيل​، مستهدفاً بالتحديد وزير الشؤون الاجتماعية ​بيار بو عاصي​.

ولعلّ لجوء رئيس الجمهورية إلى البحث عن "مَخارِج"، سواء عن طريق دعوة المواطنين الذين يملكون معلومات أكيدة عن "غير مستحقي الجنسية" إلى تقديمها، أو من خلال الطلب من المدير العام للأمن العام ​اللواء عباس إبراهيم​ التدقيق بالأسماء المشمولة بالمرسوم، أكد نجاح الحملات نسبياً في تحقيق مرادها، ولو أصرّ بعض المحيطين به أو المحسوبين عليه على "المكابرة" عبر تأكيد عكس ذلك. وسواء كان هذا الأمر يُحسَب للرئيس أم أنه يشكّل انتصاراً لخصومه الذين نجحوا في جعله يتراجع أو يجمّد بالحدّ الأدنى مرسوماً كان قد وقّع عليه، فإنّ كثيرين اعتبروا ما فعله بمثابة خطوة أولى من أجل "نفض يديه" من المرسوم الذي اعتمده الكثيرون "مطيّة" لإحراجه وضرب العهد من خلاله، وقد نجحوا في ذلك إلى حدّ بعيد.

صراعٌ على المعارضة

نجح خصوم العهد بشكلٍ أو بآخر في الجولة الأولى إذاً، ربما لأنّ المرسوم كان يحمل في الشكل قبل المضمون، عناوين تسمح بالتشكيك به وبالتالي رجمه إذا ما ثبُت الخلل فيه، ولكن أيضاً من خلال الضغط الذي عرفوا كيف يستثمرونه للتصويب على "العهد"، الذي لا يشكّ أحد في أنّ من يُحسَبون عليه كانوا ليتصدّروا أيّ حملاتٍ مشابهة على أيّ مرسوم تجنيس في ظروفٍ مغايرة، وهو ما حصل أصلاً في عهودٍ سابقة، ولا سيما في عهدي الرئيسين ​الياس الهراوي​ و​ميشال سليمان​، علماً أنّ "التيار الوطني الحر" يتهم في المقابل بعض المصوّبين عليه بأنّهم لم يُظهِروا أيّ غيرةٍ على الجنسية في السابق كما يفعلون اليوم، على الرغم من أن المرسوم الحالي لا يشكّل "سابقة"، لا من حيث الشكل ولا المضمون، ولا عدد المشمولين به.

ولكن، إذا كان خصوم العهد نجحوا في الضغط عليه، ولو نسبياً، فإنّه لا يمكن الحديث بأيّ شكلٍ من الأشكال، حتى الآن على الأقلّ، عن معارضةٍ موحّدة للعهد، بل إنّ المفارقة التي يجدر التوقف عندها، هي أنّ القوى التي وجدت في مرسوم التجنيس ضالتها لاستهداف العهد وإقناع الرأي العام بأحقيّة ما تنادي بها، دخلت في صراع فيما بينها على "الزعامة"، بدليل السباق على الخطوات نفسها، ولا سيما لجهة طلب الاستحصال على المرسوم من وزارة الداخلية، بحيث لم يكن من الصعب للمراقب أن يلاحظ أنّ هذه القوى "تسابقت" على من يصل قبل الآخر، تماماً كما تسابقت كلٌّ منها على رفع السقف في "حرب المزايدات" التي خاضتها، للإيحاء وكأنّها "أم الصبي"، أو بالحدّ الأدنى أكثر حرصاً من غيرها.

وإذا ما أقرِن هذا الأمر بالتحييد المستغرَب لرئيس الحكومة عن الحملة، رغم أنه ووزير داخليته من الموقّعين، أو ما ذهب إليه البعض من وضع "أسباب تخفيفية" للحريري رفض تطبيقها على غيره، فإنّ ذلك يدلّ على أنّ الأمور لا تزال في مرحلة التبلور، وأنّ شيئاً لم يُحسَم بعد، أقلّه بانتظار نضوج المعطيات الحكومية، وهو ما يبرّر أيضاً صمت بعض القوى الأخرى، الذي لم تخرقه سوى تغريدة يتيمة لرئيس تيار "المردة" ​سليمان فرنجية​ مثلاً، في ظلّ ما يُحكى عن "وساطات" تجري للحدّ من تباينات هذه القوى مع العهد، وهو ما يبقى مرهوناً بما يمكن أن ينجم عن مفاوضات الأيام أو ربما الأسابيع المقبلة، والشياطين التي قد تكون كامنة خلفها.

أين المبادئ؟!

يقول "التيار الوطني الحر" إن الحملة على "مرسوم التجنيس" تستهدف ​الرئيس ميشال عون​ على وجه التحديد، ولا خلفيات لها خارج ذلك.ولكن، هل كان موقف "العونيين" سيكون نفسه لو أنّ "مرسوم التجنيس" صدر في عهد رئيسٍ آخر، وسمعوا في التسريبات أنّه يشمل سوريين وفلسطينيين، وهم الذين يرفضون إقرار حقّ الأم بمنح الجنسية لأطفالها منعاً لتجنيس سوريين وفلسطينيين ربطاً بالخوف من التوطين؟.

وفي المقابل، يقول معارضو "التيار" بأنّ مرسوم التجنيس مرفوضٌ شكلاً ومضموناً، بل يرتقي ليكون جريمة بحقّ الوطن والجنسية. ولكن، هل كان موقفهم ليبقى بنفس الحدية لو أنّ المرسوم لم يحصد توقيع الرئيس عون، علماً أنّ بينهم من كانوا محسوبين على رؤساء سابقين أقرّوا مراسيم مشابهة، من دون أن تثير حفيظتهم؟

هي لعبة السياسة في لبنان تثبت مرّة أخرى أنّها تفتقد المبادئ وكلّ ما يمتّ إليها بصلة...