قراءة التاريخ والوقوف عند محطاته، والتمعن والتأمل في دلالات أحداثه، خصوصاً حينما تُنتهك الحقوق والقيم الإنسانية الرفيعة، يُعد ضرورة إنسانية مُلحة، لتسجيل الوقائع ورصدها، وكشف الحقائق، في عالم باتت مصالحه متشابكة، وقضاياه الإنسانية متداخلة، ومحل اهتمام دولي وحقوقي ملحوظ، ومتزايد.

في هذا السياق، أقول إن شعوب و​دول الخليج​ وأمتنا العربية والإسلامية ودول العالم، ومنظماته الحقوقية فوجئت بانطلاق حملة ظالمة، ضد دولة قطر، بدأت بقرصنة مفضوحة لموقع وكالة الأنباء القطرية في ساعة متأخرة من الليل، ومع بداية الساعات الأولى لصباح الرابع والعشرين من مايو 2017، وكشفت القرصنة التي تمت وسط الظلام أبعاد مؤامرة كبرى، حيث أطلت بفبركة تصريحات منسوبة لحضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير دولة قطر، حفظه الله، وجرى بثها عبر موقع الوكالة.

اللافت منذ اللحظات الأولى للقرصنة أن حملة إعلامية انطلقت بسرعة ، ما يؤكد أن إعدادها جرى مسبقاً، واستمرت متصاعدة في وسائل إعلام إمارتية وسعودية، ولم تهتم حكومات دول الحصار الأربع، ​السعودية​ و​الإمارات​ و​البحرين​ ومصر، بنفي رسمي قطري للتصريحات المفبركة، وواصلت حملتها، التي تزامنت مع اعلان هذه الدول سلسلة إجراءات لم تقف عند حدود قطع العلاقات الدبلوماسية، بل تجاوزت ذلك إلى فرض حصار بري وبحري وجوي.

تمزيق شمل الأسرة الخليجية، من خلال منع القطريين ومواطني ثلاث دول خليجية من التواصل مع أهلهم في ​الدوحة​، حيث شملت انعكاسات الحصار السلبية مئات الأسر وآلاف المقيمين من جنسيات عدة، وقد أصيبوا كما الأسر القطرية والخليجية وحتى الطلاب بخسائر فادحة معنوية ومادية وتعليمية.

ووفقا للجنة الوطنية لحقوق الانسان فقد تم رصد وتوثيق 11387 حالة إنسانية لمواطنين من دول الحصار المقيمين في قطر، منها 1954 متضرراً في حق العمل، و 706 متضررين في حق التعليم و 6474متضرراً في حقوق لم الشمل، بالإضافة الى انتهاكات حق القامة والتنقل، والاخلال بالعقود، ومنع قطريين من الوصول إلى ممتلكاتهم في دول الحصار.

شكل منع السعودية القطريين من أداء العمرة، والحج إلى بيت الله أول خطوة من نوعها في تاريخ العلاقات بين دول وشعوب دول ​مجلس التعاون الخليجي​، حيث تلقى المجلس ضربة قاصمة تحت وطأة الحصار، الذي تسبب في شل أية قدرة للتعامل مع الأحداث، أو مجرد الدفاع الكلامي عن حقوق الناس.

وكما أشرت، فان المتابعين للشأن الخليجي والعربي والإسلامي، فوجئوا بالحملة ضد دولة قطر، إذ لم تكن هناك أية مقدمات لخلافات بين الدوحة والدول الأربع عشية قطع العلاقات وفرض الحصار، وكانت القيادة القطرية شاركت في قمة عربية إسلامية أميركية في 21 مايو 2017 بحضور الرئيس الأميركي دولاند ترامب، الذي أشاد بدور الدوحة في ​مكافحة الإرهاب​، وهذا ينسف أهم ادعاءات دول الحصار .

واذا كانت الدول الأربع قد قدمت ( 13 مطلباً ) تمس السيادة القطرية وبينها المطالبة باغلاق مؤسسات إعلامية في صدارتها قناة الجزيرة، فهذا يعني أنهم يحاصرون الراي والحرية.

مطالب دول الحصار في مجملها قوبلت منذ لحظة الكشف عن مضامينها باستهجان إقليمي ودولي وحقوقي متعاظم، كما كشفت في الوقت نفسه طبيعة العقلية السياسية التي تقف خلف استهداف دولة قطر وقيادتها الحكيمة، وشعبها الذي التف حول قيادته، في مشاهد تلاحم رائعة ، عبرت عن أصالة ونبض وطني، وإرادة وطنية، ترفض الضيم وأساليب القهر، وتدافع عن الحقوق الوطنية والإنسانية المشروعة.

والآن مع مرور عام على فرض الحصار الجائر على دولة قطر وشعبها وشعوب المنطقة فان كل الدلائل والشواهد تؤكد وبما لايدع أي مجال للشك، سقوط كل الدعاوى والاتهامات الباطلة، التي رددتها دول الحصار، واعتمدت عليها في حملتها الظالمة ضد الدوحة، وبات واضحاً أكثر من أي وقت مضى بأن المطلوب هو استهداف سيادة واستقلال وحرية أهل قطر الذين تقود بلادهم سياسات عصرية منفتحة على التعامل مع دول العالم، استناداً إلى قيم ومبادي احترام سيادة الدول وعدم التدخل في الشؤون الداخلية والمصالح المتبادلة.

ويأتي في صدارة الإنجازات الاهتمام المستمر والمتزايد بالإنسان القطري، ومثلاً كانت الدوحة سباقة بوضع دستور دائم وافق عليه الشعب في استفتاء عام، ونص على الحرية والمشاركة الشعبية والانتخابات والفصل بين السلطات، ومشاركة المرأة بالانتخابات، وجاءت مشاركة المرأة القطرية في ​الانتخابات البلدية​ منذ سنوات عدة لتسجل تجربة رائدة في سياق تفاعلات مستمرة لبناء دولة المؤسسات. كما أن دولة قطر حققت تقدما كبيرا في مجال التشريعات واستقلال القضاء وبناء الإنسان المواكب لمتطلبات المناخات الجديدة في العالم.

لكن من يستهدفون على قطر نسوا أو لم يدركوا أن إنجازات قطر الاقتصادية باتت محل اهتمام دول العالم كافة، وأن هذا النجاح تقف خلفه سياسات رشيدة، ودبلوماسية قطرية فذة ، حولت الدوحة إلى مركز ثقل إقليمي ودولي، تلتقي عنده مصالح العالم وبينها الدول الكبرى.

وقد أكدت الجولات التي قام بها حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد حفظه الله، في أفريقيا وأوروبا وآسيا وأميركا أن هناك تقديراً كبيراً لسياسة قطر المتوازنة، التي تسعى إلى تحقيق المصالح المشتركة، وتعزيز الأمن والسلم الدوليين، وعلى سبيل المثال نشير إلى أن توقيع قطر والولايات المتحدة في الدوحة على في 11 يوليو 2017 على "مذكرة تفاهم للتعاون في مجال مكافحة تمويل الإرهاب"، تشمل التعاون بين الجانبين في المجالات الأساسية لمكافحة الإرهاب كالأمن والاستخبارات والمالية، يكشف أبعاد التعاون القطري في محاربة الارهاب، وقد جاء توقيع هذه المذكرة في ظل الحصار الجائر المفروض على الدوحة ليشكل لطمة في وجوه من فرضوا الحصار واتهموا قطر بدعم الإرهاب.

كل ذلك ترافق مع استمرار الاقتصاد القطري في تحقيق نجاح تلو نجاح، وأشير إلى أن الأرقام والحقائق تؤكد أن الاقتصاد القطري، حافظ منذ بدء أزمة الحصار على تماسكه، وسعت الدوحة إلى تنويع اقتصادها بالتركيز على قطاع الخدمات، خاصة وأن صناديق قطر السيادية تمثل 250% من الناتج المحلي الإجمالي، وتبلغ أصولها ما يقارب 300 مليار دولار أمريكي.

وفيما يتعلق بالتجارة، فكان تأثير الحصار محدوداً، لأن حصة الحدود البرية مع السعودية تبلغ فقط 14%، فيما استمرت صادرات قطر إلى اليابان والهند وكوريا الجنوبية والصين والتي تمثل ثلاثة أرباع الصادرات القطرية، ونجحت قطر في الالتزام بجميع تعهداتها مع شركائها الاقتصاديين حول العالم.

أشير في هذا السياق إلى أن افتتاح ميناء حمد الجديد في ظل الحصار شكل حدثاً تاريخياً واقتصادياً حيوياً، وقد ساهم في استيعاب آثار هذا الحصار، ويعتبر أكبر موانئ المياه العميقة في المنطقة، وتراوح طاقة استيعابية بين 5 و7 مليون حاوية سنوياً، وشهد هذا المشروع العملاق تدشين 5 خطوط ملاحية بديلة إلى كل من سلطنة عُمان والهند.

وقد يتساءل البعض في هذا الإطار عن الوضع المالي، والحقائق تقول إنه رغم سعي دول الحصار الأربع إلى تقويض استقرار الريال القطري إلا أنه حافظ على قيمته مقابل الدولار الأميركي، وحافظ كذلك تصنيف قطر الائتماني على مركزه بين أفضل 25 دولة في العالم رغم التعديلات الأخيرة عليه، مستنداً على قوة الاقتصاد والمصارف القطرية، و تبلغ احتياطات مصرف قطر المركزي حوالي 40 مليار إلى جانب الاحتياطات النقدية الاستراتيجية ل​وزارة المالية​ القطرية.

تنموياً تواصلت عجلة الإنجاز، وأُعلن عن رفع الطاقة الإنتاجية للغاز الطبيعي المسال بنسبة 30%، وتوقيع عقد مع شركة ​توتال​ لتوسيع إنتاج حقل الشمال، لتحافظ قطر على مكانتها كأكبر منتج للغاز الطبيعي المسال في العالم، وثاني أكبر مُصدّر للغاز، ويشار إلى استمرار تنفيذ مشاريع ​البنى التحتية​، تنفيذا للرؤية 2030 واستعداداً لاستضافة كأس العالم 2022.

وتواصل الإنجاز في مجال الطاقة ، ومع إطلالة العام الجاري دشن حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى حفظه الله يوم 20 فبراير مشروع مصفاة (لفان 2) وهي تأتي في إطار تحقيق رؤية قطر الوطنية 2030 للوصول إلى الهدف الأسمى، وهو تحقيق التنمية المستدامة وتأمين استمرار العيش الكريم للأجيال.

ووفقا لحقائق الواقع ساهم التشغيل الناجح لمصفاة لفان 2 في مضاعفة طاقة قطر لتكرير المكثفات لتصل إلى حوالي (292) ألف برميل يومياً، مما جعل راس لفان واحداً من أكبر مواقع تكرير المكثفات في العالم، كما تم الإعلان عن إطلاق أول إنتاج من حقل الشاهين البحري (حقل الشمال)، ويتضمن 33 منصة بحرية، وما يقارب 300 بئر، وهو أكبر حقل نفطي بحري في قطر وأحد أكبر حقول النفط البحرية في العالم.

وكان لمطار حمد الدولي الدور الريادي في دعم الحيوية الاقتصادية، حيث نال المرتبة الخامسة بين افضل مطارات العالم، ولعب دوراً مهماً، بأسطول الخطوط القطرية وهي أفضل ناقل جوي لعام 2017، والذي يبلغ حوالي 200 طائرة شحن وركاب، مع إضافة 10 وجهات جديدة لطائراتها هذا العام لتبلغ 152طائرة، كما نجحت ​الخطوط الجوية القطرية​ في فتح خطوط جوية جديدة لمواجهة الحصار الجوي ودشنت العديد من الاتفاقيات الخاصة بفتح خطوط مع الكثير من الموانئ العربية والدولية، الأمر الذي مكن بلادنا من إدارة الأزمة ومواجهة الحصار بكفاءة واقتدار.

وعلى صعيد القوات المسلحة، تم العمل على تطوير جميع أفرع القوات المسلحة، وشهد هذا العام توقيع العديد من اتفاقيات التعاون العسكري والشراكات مع معظم دول العالم المتقدمة في مجال تكنولوجيا الأسلحة والتدريب، ودعمت قطر منظومتها الدفاعية بمختلف أوجه التعاون مع أكثر من 15 دولة حول العالم على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا و​بريطانيا​ وفرنسا.

من كل هذا يبدو أن المشهد في قطر يتسم بالحيوية والقدرة على مواجهة تحديات الحصار، وقد تميزت الدبلوماسية القطرية بقيادة سعادة الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية، بحيويتها وقدرتها على مد جسور التعاون والتواصل مع دول العالم التي استمعت باهتمام إلى مواقف قطر بشأن الحصار، وبينها أول موقف وبيان لوزارة الخارجية بعد الحصار. حيث أعربت الخارجية القطرية عن اسفها واستغرابها الشديد من قرار كل من المملكة العربية السعودية ودولة ​الامارات​ العربية المتحدة و مملكة البحرين بإغلاق حدودها ومجالها الجوي وقطع علاقاتها الدبلوماسية، ووصفت الوزارة هذه الإجراءات في وقت صدورها بأنها "غير مبررة وتقوم على مزاعم وادعاءات لا أساس لها من الصحة".

وكانت وزارة الخارجية أكدت أن" دولة قطر تعرضت إلى حملة تحريض تقوم على افتراءات وصلت حد الفبركة الكاملة ما يدل على نوايا مبيته للإضرار بالدولة علما بأن دولة قطر عضو فاعل في مجلس التعاون الخليجي وملتزمة بميثاقه وتحترم سيادة الدول الأخرى ولا تتدخل في شؤونها الداخلية كما تقوم بواجباتها في محاربة الإرهاب والتطرف". كما أكدت وزارة الخارجية أن "هذه الإجراءات التي اتخذت ضد دولة قطر لن تؤثر على سير الحياة الطبيعية للمواطنين والمقيمين في الدولة و أن الحكومة القطرية ستتخذ كل الإجراءات اللازمة لضمان ذلك ولإفشال محاولات التأثير على المجتمع والاقتصاد القطريين والمساس بهما".

وهنا ينبغي التأكيد على أن الموقف المبدئي الدائم لدولة قطر كان ومازال يدعو إلى الحوار والجلوس الى طاولة المفاوضات لإيجاد الحلول لاي خلافات بين الاشقاء في ​دول مجلس التعاون​ الخليجي.

هذا وقد أكدت مسارات الحياة في دولة قطر أن الحياة تسير بشكل طبيعي، وأن البلاد تخطو خطوات جريئة على طريق التنمية الشاملة وتعزيز استقلالية قرارتها ودعم سيادتها على أرضها والدفاع عن كرامة المواطنين والمقيمين.

ومن المهم أن أشير إلى البعد الإنساني والحقوقي الدولي ، إذ أن دولة قطر لم تكن الوحيدة التي كشفت زيف الادعاءات ، حيث أصدرت منظمات حقوقية دولية عدة انتقادات شديدة لانتهاكات حقوق الانسان التي ارتكبتها دول الحصار، التي خرقت ميثاق الأمم المتحدة، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان ، ولعل أحدث دليل صدر قبل أيام حيث دانت تلك الانتهاكات مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان. أخلص من كل هذه التفاعلات إلى أن الأزمة التي افتعلتها دول الحصار لم تجد أذنا صاغية حتى في أوساط شعوب دول الخليج المشاركة في الحصار ، وهنا أطل بوضوح ومبدئية الموقفان الكويتي والعماني وقد اتسما بروح الأخوة والنبل.

كل هذا يعني أن خطط دول الحصار فشلت في تطويع الإرادة القطرية الصلبة كما فشلت فشلاً ذريعاً في ضرب استقلالية قطر أو وقف مسيرة الإنجازات، وقد بدا واضحاً لأي مراقب منصف وأمين أن تحديات الحصار ساهمت في حشد الطاقات القطرية أكثر من أي وقت مضى على طريق مواصلة التمسك بالقرار الوطني المستقل، والإرادة الحرة، التي ترفض الإملاءات. المؤكد أن دولة قطر هي الآن أقوى من أي وقت مضى، بقيادتها الواثقة، المدركة لكيفيات إدارة الدولة الحديثة، كما صارت أكثر شموخاً وعزة بشعبها الذي صنع ملحمة بالتفافه وتفاعله مع قيادته وتاريخه وطموحاته المشروعة، نحو غد أكثر اشراقاً، وأروع انجازا.

سفير دولة قطر لدى الجمهورية اللبنانية