يرزح ​لبنان​ منذ بداية الحرب في ​سوريا​ في العام 2011 وحتى تاريخه، تحت أعباء أزمة النازحين السُوريّين الذين توزّعوا بشكل عشوائي وغير مُنظّم على مُعظم مدنه وبلداته وقراه، وراحوا يتسلّلون تباعًا إلى سوق العمل، ليحلّوا مكان مئات آلاف العمّال اللبنانيّين، مُفاقمين بذلك أزمات لبنان الإقتصادية والحياتية والمعيشيّة الضاغطة. فماذا سيفعل لبنان لحلّ هذه المُعضلة؟.

لا شكّ أنّ أسباب هذه الأزمة التي فاقمت بطالة اللبنانيّين بشكل خطير، والتي أرهقت الدولة بمزيد من الديون وجعلتها مُقصّرة أكثر إزاء مُستلزمات الحياة الأساسيّة لشعبها، بسبب الضغط الكبير على قطاعات ​الكهرباء​ و​المياه​ والبنى التحتيّة كافة، لا تقتصر على تقصير السُلطة اللبنانيّة وعلى سوء تعاملها مع الأزمة منذ البداية نتيجة الإنقسام السياسي الداخلي، بل تتعدّاها إلى أسباب إقليميّة ودوليّة متشعّبة، وإلى أسباب مرتبطة ب​اللاجئين​ أنفسهم. وفي هذا السياق، يُمكن تعداد جملة من الأسباب التي لا تزال تحول دون حلّ هذا الملف في المُستقبل القريب.

أوّلاً: غياب "الضوء الأخضر" الدَولي حتى تاريخه بالنسبة إلى أزمة النازحين السُوريّين الموزّعين على دول الجوار (لبنان و​الأردن​ و​تركيا​) بشكل خاص، وعلى مُختلف أنحاء العالم بشكل عام، ومُحاولة أكثر من دولة نافذة دَوليًا ربط هذا الملف بالحلّ النهائي للحرب السُورية والذي لم يُبصر النور بعد. وهذا الأمر يستوجب تحرّك لبنان على الخط الدبلوماسي للإضاءة أكثر على الأضرار الجسيمة التي سبّبها اللُجوء السوري العشوائي إلى لبنان، والتلويح بقرب إتخاذ السُلطات اللبنانيّة إجراءات قاسية لمعالجة أزمة ​النزوح​ بشكل أحادي، ما لم يتحرّك المُجتمع الدولي للبدء بإعادة النازحين من دون أي تأخير.

ثانيًا: تعامل ​النظام السوري​ّ مع لاجئيه بشكل لا يرقى إلى حجم هذه المأساة الإنسانيّة، حيث يُقدّر عددهم بأكثر من خمسة ملايين نسمة، بينما إقتصرت تحرّكات السُلطات السورية على بعض الدعوات المُتفرّقة للعودة، من دون إرفاقها بأي حوافز أو متطلّبات صُمود، بل بالعكس من ذلك، يتمّ التعامل مع أي عائد وفق المنطق القديم المعروف، لجهة التحقّق من تموضعه السياسي، بالتزامن مع إصدار القانون رقم 10 المُثير للجدل(1). وهذا الواقع يستوجب من لبنان فتح قنوات إتصال مع السُلطات السوريّة من دون الإعتراف بالنظام-إذا كان هذا الأمر غير متفق عليه داخليًا، أي يتمّ التواصل بشكل ضيّق ومحصور بأزمة النازحين دون سواه، وذلك بهدف البدء بتنسيق عودتهم إلى بلادهم.

ثالثًا: رفض أغلبيّة ساحقة من اللاجئين السوريّين في لبنان العودة إلى بلادهم لأسباب أمنية مختلفة لا علاقة للبنان بها، وكذلك لأسباب إقتصادية-حياتيّة، حيث أنّ الكثير منهم حصل على فرص عمل تؤمّن له دخلاً ماديًا عاليًا نسبة إلى ما كان يكسبه في سوريا، وذلك على حساب فقدان العديد من اللبنانيّين أعمالهم ومداخيلهم. إلى ذلك، تحصل فئات واسعة من النازحين على مُساعدات مالية من مُنظّمات الإغاثة الدَوليّة المعنيّة بشؤون اللاجئين، وعلى مُساعدات تسمح لهم بتعليم أطفالهم، وهذا إجراء يجب أن يتوقّف، حيث يُمكن تحديد تاريخ زمني لوقف هذه المُساعدات بشكل نهائي، وذلك لحثّهم على العودة، بدلاً من تشجيعهم على إستضافة عائلاتهم معهم في لبنان، وحتى إلى ​الزواج​ وتكوين عائلات جديدة فيه!.

رابعًا: إقتصار العودة من لبنان إلى سوريا على مبادرات فرديّة في أغلبيّة الحالات، وعلى بعض رحلات العودة المُنظّمة والتي إقتصرت على بضع مئات فقط من النازحين، والتي جاءت بعد أشهر طويلة من التحضيرات اللوجستيّة ومن المحادثات التمهيديّة، بشكل لا يُمكن الركون إليه لحلّ مُعضلة تطال مئات الآلاف منهم. وبالتالي، من الضروري البدء بتجميعهم في مخيّمات حُدوديّة وفق مناطق إنتشارهم في سوريا، تمهيدًا لتنظيم رحلات عودة جَماعيّة بوتيرة سريعة، بالتنسيق مع النظام السوري في هذا الملف الدقيق حصرًا، مع السعي للُحصول على رعايات دوليّة لهذا الأمر، وإلا فمن دونها!.

فلبنان لم يعد قادرًا على تحمّل أيّ تأخير إضافي في ملفّ النازحين، ويبدو أنّه لم يعد من خيارات أمام السُلطة السياسيّة العُليا في لبنان التي وضعت مسألة حل هذه الأزمة في طليعة إهتماماتها، سوى تصعيد المُواجهة مع المُجتمع الدَولي، على أمل تسليط الضوء جديًا على ما يتحمّله لبنان من أعباء ضخمة نتيجة إستمرار ملفّ النزوح من دون أي حلّ. وبحسب المعلومات المتوفّرة فإنّ السُلطة في لبنان تتجه في المرحلة المُقبلة، إلى تصعيد التركيز الإعلامي على هذه المسألة، والأزمات الناتجة منها، وإلى إنتقاد الإهمال الدَولي لهذا الملف وترك دول الجوار، ومنها لبنان، ترزح تحت أعبائه. كما تتجّه السُلطة اللبنانيّة الرسميّة إلى تكثيف التواصل مع المُجتمع الدَولي في هذا الخُصوص، لحثّ الدول الكبرى المعنيّة على إيجاد الحُلول المُجديّة بعيدًا عن الشعارات الطنّانة، وكذلك بعيدا عن المُساعدات العينيّة الجزئيّة والتي تضرّ أكثر ممّا تنفع، كونها تُشجّع الكثير من النازحين على الإستسلام لواقع نزوحهم، وعلى التأقلم مع تبعاته من دون التفكير بالعودة إلى الوطن. كما سيعمل لبنان على فتح خطوط تنسيق مباشرة مع السُلطات السوريّة للعمل على حلّ بعض الملفات الصغيرة المرتبطة بمناطق مُحدّدة، ما يُساعد في عودة جزء ولوّ بسيط منهم.

وفي حال فشل كل هذه الإجراءات المُنتظرة قريبًا، تتردّد معلومات عن إحتمال أن يُضطر لبنان إلى رفع مُستوى ضغوطه على اللاجئين، وبوجه المُجتمع الدولي أيضًا، لأنّ السلطة الحالية لن تقبل بإستمرار أزمة النزوح على ما هي عليه في ظلّ التحسّن الميداني الكبير الذي حصل في سوريا، وفي ضوء التوتّرات الإقليميّة المُستمرة والتي تستوجب السيطرة أمنيًا على لبنان وعدم ترك أي ثغرات كبيرة يُمكن أن تكون في يوم من الأيّام نواة لأزمات أمنيّة وسياسيّة وإقتصاديّة جديدة.

يطلب من النازحين إبراز الوثائق التي تُثبت ملكيّاتهم التي تدمّرت خلال الحرب، لأنّ ​الدولة السورية​ تتحضّر لإعادة إعمار الكثير من المناطق وفق تنظيم مدني حضاري، ومن يتخلّف عن القيام بهذا الأمر يفقد ملكيته.