غاب نجم تنظيم "داعش" في الآونة الاخيرة. لجأ مقاتلوه الى ملاذات آمنة، تطبيقاً لقواعد التنظيم الذي يخبو، كلّما زادت المخاطر التي يواجهها. لا يعني هروبه، نهاية لوجوده. في الأشهر القليلة الماضية، تناوب الأميركيون و​العراق​يون على إعلان نهاية "داعش" في مساحات واسعة. ثبّت صمت "الدواعش" تلك المعادلة. لكن، تطورات عراقية بالجملة، فرضت إطلالة التنظيم في عمليات خاطفة في العراق، لتأكيد المضي في المشروع الدموي. حصل ذلك قرب ​الموصل​، بالتزامن مع ارتفاع الاصوات العراقية التي ظهرت إبّان الانتخابات التشريعية، تطالب بإنسحاب القوات الاميركية من العراق.

ثم جاءت العمليات الداعشية في الآونة الأخيرة في منطقة الميادين التابعة لمحافظة ​دير الزور​ في الشرق السوري، بعد هجمات عنيفة شنّها مقاتلو "داعش" على نقاط عسكرية تابعة للجيش السوري وحلفائه في محيط بلدتي الجلاء والحسرات على طريق البوكمال-الميادين.

كلّ تلك العمليات الداعشية تستعيد الزخم، للتذكير بأن التنظيم لا يزال حيّاً، وقادراً على التحرك والمبادرة النارية، ومهاجمة مراكز أعدائه.

في المساحتين السورية والعراقية، إستعاد جيشا البلدين المبادرة في المناطق التي هاجمها التنظيم، لكن الاشارة وصلت، لتوحي بخدمة يقدّمها "داعش" الى الدولة الأميركية العميقة، التي لا ترغب بالانسحاب العسكري من تلك المناطق، وهي عاندت قرارات الرئيس الأميركي ​دونالد ترامب​ بخصوص نوايا الانسحاب من ​سوريا​ تحديداً.

يستند المؤيّدون لطرح الدولة الأميركية العميقة، الى مضي "داعش" في عملياته وتهديداته، لتشريع البقاء العسكري الأميركي في سوريا، ضمن مراكز وقواعد مهمة. يعزّزه انصار هذا الطرح داخل الكونغرس الأميركي، بإستحضار الخطر الذي ستواجهه ​اسرائيل​، في حال الانسحاب الأميركي. هم يروّجون فكرة ان تل ابيب في دائرة الخطر، ولا يمكن ترك الساحة السورية للإيرانيين وحلفائهم، وتحديداً حزب الله.

لا يقتصر الكلام الأميركي عند هذا الحد، بل يصل إلى حد إستحضار التواجد العسكري الروسي في سوريا، وتفرّد ​موسكو​ المحتمل في وضع اليد على الثروات الطبيعية السوريّة. وهي ليست بالمصادفة أن يتواجد الأميركيون في الشرق السوري الغني بالثروات والنفط والمعادن.

يعتبر الاميركيون ايضاً، وجودهم في سوريا، عاملاً أساسيا في ضبط حركة المنطقة برمّتها. لأن الموقع الجغرافي السوري، يسمح بالإطّلاع عن كثب على تركيا، والعراق، وإيران، وكل الدول العربية، ويسمح بطمأنة حلفاء ​واشنطن​، وخصوصاً الدول الخليجية، التي خاضت معارك خاسرة في سوريا طيلة سنوات مضت.

من هنا، يشكّل وجود "داعش" حجة أميركية لثبيت القواعد العسكرية في الشرق، وإحباط أي تسوية تقوم على أساس سحب القوة الاميركية. خصوصا أن الروس كانوا ردّدوا في الآونة الأخيرة كلاماً عن وجوب إنسحاب كل القوات العسكرية من سوريا، فقصدت موسكو الأميركيين، والإيرانيين، والأتراك، وحلفاء كل دولة منهم.

جاء الرد الأميركي، بتخادم مع "داعش" في الشرق السوري. ثم تبعه الرد الإيراني بالتنسيق مع دمشق. فالكلام الواضح للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله عن ربط الانسحاب فقط بطلب القيادة السورية ذلك، وعدم الإنصياع لأي طلب دولي، مهما يكن.

تلك مساحة مفاوضات حامية عن بُعد، توحي بالتمهيد لما هو آت في سوريا، على وقع محاولات إسرائيلية لفرض شروط في الجنوب السوري، قبل السماح لدمشق بإعادة الوضع الى طبيعته.