أربع موجات نزوح ... ومراسيم تجنيس بالجملة !

منذ بداية القرن العشرين، أربع موجات نزوح كبيـرة إجتاحت لبنان وأثّـرت فـي ديـموغرافـيـته السكانية. جاء النـزوح الأول خلال الـحرب العالـمية الأولى، بعد تعرّض ​الأرمن​ فـي عهد ​الدولة العثمانية​ إلى عدّة مـجازر، وبسبب هذه الـمجازر، هاجر الأرمن إلى العديد من دول العالـم، ولاسيما منها ​سوريا​ ولبنان ومصر و​العراق​، ودخل إلى لبنان بيـن عامـي 1915 و1916 قرابة 40 ألف أرمنـي.

وجاء النـزوح الأرمنـي الثانـي عام 1939، بعد إنسحاب ​فرنسا​، الدولة الـمنتدبة، من لواء إسكندرون، الذي كان يُعتبـر الـمحافظة الـخامسة عشر فـي سوريا، وحيـن دخلت إليه قوات تركية، وقامت بضمّه وإعلانه جزءاً من الـجمهورية التـركية. بعد سلخ "اللواء"، نزحت إلى سوريا ولبنان أعداد كبيـرة من العرب والأرمن، ودخل إلى لبنان حوالي 20 ألف أرمنـي. هاتان الـموجتان من النـزوح حصلتا قبل إعتـراف فرنسا باستقلال لبنان عام 1943.

بعد الإستقلال، حصلت أيضاً موجتان كبيـرتان من النـزوح، الـموجة الأولى جاءت من فلسطيـن، إثـر إعلان الـمملكة الـمتحدة إنـهاء إنتدابـها على فلسطيـن، وغادرت تبعاً لذلك القوات البـريطانية من منطقة الإنتداب فـي أيار 1948، فأصدرت الأمـم الـمتحدة قراراً بتقسيـم فلسطيـن لدولتـيـن يهودية وعربية، الأمر الذي عارضته ​الدول العربية​ وشنّـت هجوماً عسكرياً فـي أواخر أيار 1948 لطرد الـميليشيات اليهودية من فلسطيـن، واستـمرت الـحرب حتـى كانون الثانـي 1949 وأسفرت عن هزيـمة للجيوش العربية، فلجأ الفلسطينيون إلى ​الأردن​ وسوريا ولبنان. وكان قد وصل عدد اللاجئيـن الفلسطيـنيـيــن فـي لبنان الـمسجّليـن فـي ​الأونروا​ فـي كانون الثانـي 2015، إلى حوالـي 452 ألف لاجئ.

أما الـموجة الثانية والـخطيـرة من النـزوح، جاءت من سوريا بعد الإنتفاضة الشعبية والإحتجاجات التـي إندلعت فـي 15 آذار 2011 فـي مدينة درعا جنوبـي البلاد، ضدّ القمع و​الفساد​ وكبت الـحريات. بدأ النـزاع السوري كانتفاضة أخرى ضمن سلسلة إنتفاضات الربيع العربـي، ثـم إنتهى إلى حرب شرسة بالوكالة بيـن قوى إقليمية ودولية. أيّــدت ​إيران​ و​روسيا​ الـحكومة السورية، وحظيت الـمعارضة بدعم ​تركيا​ و​السعودية​ وقطـر والولايات الـمتحدة و​بريطانيا​ وفرنسا. بلغ عدد القتلى جراء النـزاع أكثـر من 400 ألف شخص وتشرّد ونزح حوالـي نصف سكان سوريا البالغ عددهم قبل الـحرب 22 مليون نسمة، وبلغ عدد النازحيـن السوريــيـن إلى لبنان حوالـي مليون ونصف مليون سوري.

وهكذا، أصبح عدد اللاجئيـن الفلسطيـنـيـيـن والنازحيـن السوريــيـن على أرضنا حوالي مليونـي شخص، مقابل 5 ملايـيـن و400 ألف لبنانـي، أي حوالي 37 % من الشعب. وإذا أجرينا مقارنة بسيطة مع دولة مثل فرنسا، البالغ عدد سكانـها 67 مليون نسمة، يكون عدد النازحـيـن إلى أرضها 25 مليون نازح ! فـهل يُـمكن لفرنسا أو لأيّ دولة فـي العالـم أن تتـحمّل مثل هذا العدد من النازحـيـن على أرضها ؟

هناك ما يشبه الإجـماع فـي لبنان على رفض التوطيـن، وعلى ضرورة عودة اللاجئيـن الفلسطينيـيـن إلى أرضهم الـمحتلة، وعودة النازحيـن السوريـيـن إلى بلادهم. فعدا عن الأعباء الإجتماعية والـمعيشية والأمنية التـي تسبّب بـها هذا الوجود الكثيف، إزدادت نسبة ​الفقر​ وتعاظـمت نسبة ​البطالة​ وتـخطّت الـ 35 %، وتفاقمت هجرة ​الشباب​.

كما ولا يُـخفـى على أحد فإن الأحجام الديـموغرافية للطوائف فـي لبنان تلعب أدواراً أساسية فـي بنية نظام الـحكم وتركيـبـتـه، وفـي عملية صنع القرار. وفـي لبنان 13 طائفة مسيحية وخـمس طوائف إسلامية، يـخشى كلّ منها أن يتأثّــر حجمه وقدرته على التأثيـر سلباً، إذا تـمّ توطيـن أو تـجنيس أيّ مـجموعة قادمة من الـخارج. ولا يزال خطاب الرئيس الأميـركي ​دونالد ترامب​ أمام الـجمعية العامة للأمـم الـمتحدة، والذي فُسِّر على أنه يطرح توطيـن اللاجئيـن فـي البلدان التـي يقيمون فيها، يرمي بثقله على الدول الـمستضيفة للّاجـئيـن السوريـيـن، ولاسيما لبنان.

فـي خضمّ الـمعركة التـي يـخوضها لبنان ضد توطيـن اللاجئـيــن على أرضه، وبعد تزامن صدور القانون رقم 10 فـي سوريا والقانون رقم 49 فـي لبنان، جاء مرسوم التـجنيس الأخيـر ليطرح عدّة علامات إستفهام، وخصوصاً بعدما تسرّبت معلومات عن منح الـجنسية اللبنانية لرجال أعمال ميسوريـن، أغلبيتهم من التابعية السورية. هناك سابقة مشابـهـة حصلت فـي أواخر عهد الرئيس ميشال سليمان، إذ أصدر مرسوماً بـتـجنيس حوالـي 700 شخص، ولـم ينشره فـي الـجريدة الرسـميـة.

حتـى الآن، لـم يُعرف العدد الـحقيقي للأشخاص الذين حظوا بالـجنسية اللبنانية، وأيـن هي الأسباب الـموجبة لـهذا الـمرسوم، إذ إن كل مرسوم يصدر يـجب أن تكون له أسباب موجبة.

فـي مـختلف عهود الرؤساء اللبنانيـيـن، حصلت مراسيـم تـجنيس مشابـهة، ما عدا فـي عهود الرؤساء ​فؤاد شهاب​ وشارل حلو وسليمان فرنـجيه، لـم تصدر مراسيم تـجنيس إلاّ لبعض الأشخاص الـمعدوديـن. ولكنّ اللبنانيـيـن الـخائفيـن على مصيـرهم ووجودهم لـم ينسوا بعد الـمرسوم الشهيـر رقم 5247 بتاريخ 20 حزيران 1994 فـي عهد الرئيس الياس الـهراوي، وحكومة الرئيس رفيق الـحريري، ووزير الداخلية بشاره مرهج، الذي منح الـجنسية اللبنانية لعشرات الآلاف من الأشخاص. ورغم قلّة الشفافية التـي رافقت إصداره، تبيـّن لاحقاً أن الـمرسوم شـمل حوالـي 300 ألف شخص، من بينهم 70 ألف فلسطيـنـي بعناوين متفرقة، هي: "مكتومي القيد" و"جنسيات قيد الدرس" و"القرى السبع"، وقد تضاعفت أعداد هؤلاء الـمجنّسيـن على مرّ الأعوام، الأمر الذي أخلّ ب​التوازن الطائفي​ والديـموغرافـي وأدّى إلى قلب الـموازيـن فـي البلد.

وها هو البطريرك الـمارونـي مار بشاره بطرس الراعي يطلق صرخته من ​بكركي​ : "من تـجلّيات الرحـمة الوضوح فـي التعاطي واحتـرام الرأي العام، ولاسيما بـما يـختص بـمرسوم التـجنيس الذي أثار ضجة مبـرّرة بسبب كتمانه، وبسبب ما أثاره مرسوم التـجنيس سنة 1994 من خلـل ديـموغرافـي فـي البلاد، وبسبب إهـمال الـملحق التصحيحي فـي حينه، وبسبب وجود أعداد من النازحيـن تفوق نصف سكان لبنان". وتوجّه إلى الـمسؤوليـن بالقول "يبقى مبدأ منح الـجنسية هو رابطة الدم لا الأرض ولا الـخدمة نظراً لـخصوصية نظام لبنان السياسي".

ليس واضحاً من هي الـجهة التـي أرادت تـهريب الـمرسوم دونـما تدقيق فـي الأسـماء، ووضعت رئيس البلاد فـي هذا الـمأزق وأحرجته، ولكن، أيّاً كان الـمسؤول، يـجب مـحاسبته.

لا شكّ فـي أن الـمرسوم لقى إعتـراضات واسعة من بعض ​الكتل النيابية​، منها ​القوات اللبنانية​ و​حزب الكتائب​ واللقاء الديـموقراطي، وتستعدّ هذه الكتل للتقدّم بطعن فـي هذا الـمرسوم. أما الثنائي الشيعي فلاذ بالصمت بانتظار ما سيصدر من أسباب موجبة، وخصوصاً بعدما تسلّم الـمدير العام للأمن العام ​اللواء عباس إبراهيم​ الـملفّ.

السؤال الذي يطرح نفسه، هل جاء هذا الـمرسوم، وفـي هذا التوقيت بالذات، لفرز الـمعارضة قبل تشكيل الـحكومة الـجديدة ؟