اندلعت قبل اقل من يومين، مواجهات كلامية عنيفة بين ​فرنسا​ و​ايطاليا​ على خلفية ​المهاجرين​ غير الشرعيين على سفينة "ايكاريوس"، بعد ان رفضت ايطاليا استقبالهم وهو الموقف نفسه الذي اتخذته مالطا، لتفتح ​اسبانيا​ بعد فترة من المفاوضات، ابوابها للسفينة ومن على متنها.

هذه الحادثة هي "غيض من فيض" الحوادث التي تشهدها اوروبا بشكل عام، والمواقف الصادرة عن الدول الاوروبية، حيث تعتمد الغالبية العظمى منها سياسة تفادي استقبال ​اللاجئين​ من اي مكان اتوا، فيما لا تزال بعض الدول القليلة تنادي باستقبالهم لدواع اخلاقية وانسانية... هذه المواقف حوّلت اللاجئين في نظر شعوب اوروبا، الى "مرض" يجب تفاديه مهما كان الثمن، والعمل على نقله الى دول اخرى اقل استقراراً من النواحي السياسية والاقتصادية والعسكرية. ولكن تبادل الاتهامات بعدم اعتبار قيمة ​الانسان​ وحقوقه، جعل العلاقة مهددة بين الاخوة الاوروبيين، في ظل تهديدات تطالهم على اكثر من مستوى، ووسط سياسة اميركية جديدة تثقل كاهلهم على الصعيد الاقتصادي، وفيما يجهدون من اجل توحيد الموقف، تأتي قضية النازحين لتزيد الشرخ الاوروبي وتبعد المسافات.

الواقع اليوم في اوروبا هو التالي: تعلم الاوروبيون من التجارب السابقة ان المناداة بالاخلاق وبكرامة الانسان تصلح في كل زمان ومكان، ولكن الضريبة التي تترتّب عليها لا يمكن ان تحتمل لانها سرعان ما تتضاعف بشكل سريع وتتحوّل الى مشكلة داخل المجتمعات، على غرار ما شهدته فرنسا و​المانيا​ و​بلجيكا​ وغيرها من الدول... تفاقمت مشكلة اللاجئين في هذه الدول رغم كل الاعتبارات والامكانات والتدابير التي قامت بها الدول الاوروبية، وهي امور لا يمكن الاستهانة بها نظراً الى قدرة الاوروبيين في هذا المجال، مع العلم ان شروطاً قاسية توضع على النازحين عند وصولهم الى البلد الذي يطلبون اللجوء اليه، تمنعهم لفترة طويلة من حرية التنقل والتصرف. اضافة الى ذلك، هناك المشاكل التي يحملها معهم اللاجئون وهي بمعظمها تناقض طريقة الحياة الاوروبية، وبدل ان يتكيّفوا كما يرغب الاوروبيون، تبيّن في السنوات الاخيرة انهم وضعوا عاداتهم وتقاليدهم اولوية بالنسبة اليهم، ففضلوها على مجتمعات وقيم البلد الذي استقبلهم ورأوا في تقاليد الدول تهديداً لوجودهم فقرروا محاربتها بكل الوسائل، مع كل ما يعنيه ذلك من خروج عن قوانين البلاد التي يقيمون فيها، واثارة توترات وخلق خلايا تعمل على زرع الخوف والقلق في نفوس شعوب اوروبا.

اما التغيير الابرز فهو من الناحية الديموغرافية والدينية، حيث تغيّرت هوية دول اوروبا في معظم المناطق، وبات الحديث الاهم داخل الحدود الاوروبية يدور حول السماح بالحجاب ام لا، وتأييد "البوركيني" في مقابل "البيكيني". كل هذه الامور تضع اوروبا امام استحقاق جديد اسمه "اللاجئون"، وكيفية التوفيق بين مناداة القارة العجوز باحترام الانسان من جهة، والقدرة على احتضان اعداد كبيرة ممن قرر دون اي دعوة، الاستقرار في هذه الدول. وتتصاعد المشكلة حتى تصل الى حد تخصيص مبالغ مالية هائلة من اجل التصدي لازمة المهاجرين، واللافت ان المبالغ ليست مخصصة من اجل تسهيل حياة هؤلاء، بل لتحسين ظروف منعهم من الدخول بشكل غير شرعي، فيما تحاضر الدول الاوروبية نفسها بوجوب تأمين حياة كريمة للاجىء الذي يتواجد خارج الاراضي الاوروبية، وتفرض على بعض الدول استقبالهم بالقوة عبر سياسة الترغيب والترهيب، ملوحة بسلاح "حقوق الانسان" الذي لا يسري عليها بطبيعة الحال.

ولكن اختصار المشكلة يكمن في موقف رئيس الوزراء السلوفاكي بيتر بيليغريني الذي وضع الاصبع على الجرح بالقول: "يجب ان نوقف السياسة التي تدعو الى انقاذ كل من يلقي بنفسه في المياه..."، وهذا يعني بمعنى آخر، عدم تشجيع المهاجرين على القيام بأساليب غير شرعية للوصول الى بلد آخر، وهو امر فيه من المنطق بنسبة كبيرة. فبأي حق يمكن ان تفرض على بلد ان يستقبل اناساً لا يرغب فيهم، وهو غير مسؤول اصلاً عن معاناتهم في بلدهم الام، وما على هؤلاء الا القاء انفسهم في المياه او القفز فوق الحدود ليلزموا الدولة التي وصلوا اليها باستقبالهم وتأمين حياتهم.

إن حياة الانسان كريمة وغالية، ولكن هذا الامر ينطبق على كل انسان، ومن غير المنطقي التضحية بحياة انسان في بلد ما، من اجل انسان آخر رأى ان مستقبله في هذا البلد افضل من الذي ينتظره في البلد الام، فكيف ننقذ المهاجر ونضحي بالمواطن؟.