عندما تبدأ الحروب بوضع أوزارها فوق الخرائب، تجتاحنا مشاهد المغالين برفع علامات النصر الذي قد يتجاوز حسابات الأرباح والخسائر. وقد يمكننا منصاعين قسراً إلى فهم أو هضم تلك المناخات التي تختصر حاجات الدول وخصوصاً الكبرى منها لتظهير نشوة الإنتصار... لكنّ الإنتصار سخيف ووهمي وعابر ولا قيمة تاريخية له سوى الحفاظ على صور الدول وسلطاتها ومصالحها. تلك هي خلاصة المشهد المعقّد المنتظر لمن يركّز نظره على العتبة السورية التي تتثاقل نحوها خطى الدول الكثيرة بعد القتال الشرس الذي إختلطت فيه المعارك بالمفاوضات والمبادرات والتنازلات المستحيلة وتحاشر الأحلاف فوق المساحة الصغيرة المتاحة لوقف النار الذي يستوجب، في رأيي، السكون والرويّة ووقف اللغوالسياسي في معاني الهزائم والإنتصارات.

مناسبة هذا الإستهلالية همس طغى على الأحاديث والتحليلات السياسية والدبلوماسية وقفز إلى العلن بعد سقوط الصواريخ الإسرائيلية في ​الجولان​ السوري( 9 أيّار 2018) راسماً هندسة جديدة وأسئلة مبهمة لمستقبل الإشتباكات في سورية المتأرجحة بين السلم والحرب وبين الدمار وإعادة الإعمار، يمكن إختصارها بأنّ كلمة السرّ واضحة في ترك الجولان كما كان قبل ال2011 تحت الإحتلال وإمساك سورية بالمنطقة الجنوبية بعدما تيقن الروسي من أن ​الإرهاب​ أجهض كلّ التسويات ومحاولات فكّ الإرتباط هناك . جاء الجواب، بعد يومين، مزيلاً الغموض من سوتشي التي جمعت دمشق و​موسكو​( 11 أيار 2018) وعلى لسان الرئيس الروسي بوتين الذي قال بأنّ" تحقيق الإنتصارات في الحرب على الإرهاب ومع حلول تفعيل العمليات السياسية، لا بدّ من سحب القوّات الأجنبية كلّها من الأراضي السورية". وتمّ توضيح كلام بوتين روسيّاً بأنّ القوات الأجنبية يقصد بها الأميركيين والأتراك وال​إيران​يين و​حزب الله​.

إنّنا، إذن، أمام محطة جديدة تعلن وتقرّ بالإختلافات الطبيعية بين مختلف الأطراف المشاركة في تلك اللعبة داخل تلك العتبة: بين إيران وسورية كما بين إيران و​روسيا​ وبين روسيا وسورية.

تفرض الموضوعية وضع نقطة ختامية مرحليّة لهذا المشهد المنتظر الواسع للسؤآل:

ماذا عن الخلافات الروسية الأميركية؟

منذ نقطة التفاهم بين مبادرة موسكو و​واشنطن​ على إتلاف الكيماوي في دمشق وختم مراكزه بالشمع الأحمر(18 آب 2014) والجنوح نحو إمكانيات الحوار حول ​سوريا​ الذي كان يبدو عصيّاً في نتائجه بعد ولو كان ممكناً ومعقّداً في إنعقاده المتعثّر رفي جنيف من قبل ومن بعد، تدهشنا "إعصارات" الإعلام العربي التي يستغرق في حماها الكتّاب والمحللون والتي تبرز هزيمة ​أميركا​ وإنكسارها أو تغالي في المقابل، بإنتصار روسيا وتفخيم عظمتها. هذا الخطاب العربي الإستقوائي بدولةٍ عظمى وبعدائية قاتلة لدولةٍ أخرى لا يعني كثيراً في هويّات الأوطان الصغيرة ومستقبلها ، لكنّه يدفع الحنين النرجسي للشعوب الى الترحّم على الماضي الذي لن يعود قطعاً. ولأنّ التنازلات والحوارات فوق الكوارث لها أعباؤها وآلامها وإنفعالاتها وتجعل الدول والمسؤولين فيها أحياناً أجساداً بلا أرواح، لا تعنيهم أطنان الألام كما شهدنا في" ثورات العرب" وكلّ الثورات والحروب في العالم، فإنّ هؤلاء لا يعودوا ينظرون الى الواقع إلاّ بمعنى الغالب والمغلوب أو المنتصر والمهزوم، مع أنّ أقصى أحلام الشعوب التوصل الى وقف النار والتحلّق حول طاولة للخروج من مواقد النار نحو الإستقرار.

لن أخرج المعادلة من شعاري بأنّ روسيا إسترجعت عظمتها من سوريا( بالألف) وأنّ أميركا فقدت الكثير من عظمتها في حقول ​الربيع العربي​ الدموية، لكن الأهم عدم نسيان خسائرنا كعربٍ ومسلمين أوّلاً إذ لم يتغيّر شيء سوى وقوع العرب في ​الشرق الأوسط​ في حقول من الشوك اللعين الذي قد يكون أشدّ إيلاماً من الحروب في لحظات التحفّز للعبور نحو السلام أو قف إطلاق النار على الأقل. لا تبادل للذلّ في سلوك الدول العظمى وقواميسها. هناك لياقة تعامل كبرى عظيمة، إن لم نقل دبلوماسيّة عالية المستوى، لا يعرفها صغار الحكّام، تحكم أصول التعامل في الأرباح والخسائر بين روسيّا وأميركا. يحافظ الخصم على هيبة خصمه عندما يتراجع. وغالباً ما يضمر التراجع بعد تفاهم العظماء. فيليق بنا أن نخلع من أذهاننا فكرة أن تهين دولة عظمى دولة عظمى أخرى أو تكسر عزّتها أو عظمتها مهما احتدّت الخصومة والصراعات أوحروب الحلفاء. إنّ منتصرين سيخرجان من سوريّا هما روسيّا وأميركا وكلاهما يحافظ على صورة الآخر فيغطّي هزيمته ولا يعرّيه.

تقف موسكو وواشنطن إذن، اليوم، فوق بقعة "أرض" صغيرة وسطية مشتركة إسمها التفاهم المعقّد للعبور نحو أقصى الشرق إلى ما يتجاوز سورية. تلك هي ​الصين​ النقطة الجاذبة التي قد تلتهم الشمس لتقرّب الدول أو تبعدها مرحليّاً عن الدولتين الكبيرتين وعن بعضهما البعض.