الالتزامُ بوضعِ استراتيجيّةٍ دفاعيّةٍ ملازمٌ تأليفَ الحكومة وإلا لا حكومةَ قريبًا. فمصيرُ الدعمِ الدوليِّ مرتبطٌ بإجراءِ الاصلاحاتِ الإداريّةِ والاقتصاديّةِ وبمعالجةِ سلاحِ «حزبِ الله». لو كان هذا السلاحُ قوّةً جامِدةً لهانَ الأمرُ، لكنّه قوّةٌ متحرّكةٌ في ​لبنان​َ والشرقِ الأوسطِ والعالم.

أكانَ دورُ سلاحِ «حزبِ الله»، إيجابيًّا أم سلبيًّا، مستلزماتُ وجودِه تُعطِّل جوانبَ من مشروعِ الاصلاحِ ومكافحةِ الهدرِ لأن جُزءًا كبيرًا من المالِ الضائعِ على الخزينةِ اللبنانيّةِ يَذهب لتمويلِ «حزبِ الله»، خصوصًا بعدما تَقلّصَ الدعمُ الماديُّ الإيرانيّ. فكلُّ الفسادِ السياسيِّ والإداريِّ لا يساوي ثلثَ قيمةِ الهدرِ عبرَ المرافئ والمطاراتِ والحدود. الأمرُ لا يتوقّفُ على «حزبِ الله». هذه حالُ كلِّ قِوى الأمرِ الواقعِ منذ سنةِ 1975 إلى اليوم، أكانت ميليشياتٍ أو مقاومةً.

لذا، لا إصلاحَ من دونِ إعادةِ نظرٍ في سلاحِ «حزبِ الله»، ولا إعادةَ نظرٍ في هذا السلاحِ من دونِ وضعِ استراتيجيّةٍ دفاعيّةٍ. وفي ظلِّ المعادلاتِ القائمة، يَظلُّ مشروعُ الاستراتيجيّةِ الدفاعيّةِ الذي دعا إليه «إعلانُ بعبدا» هو الأنسب. فتلك الاستراتيجيّةُ التي عُرِضَت في آخِرِ جلسةٍ لـ«هيئةِ الحوارِ الوطنيِّ» في 12 حزيران 2012، هي الحدُّ الأقصى الذي يمكنُ أنْ يقَبلَ به «حزبُ الله»، والحدُّ الأدنى الذي وافقَ عليه المجتمعُ الدوليّ آنذاك.

من مصلحةِ كلِّ القِوى الرافضةِ «إعلانَ بعبدا» أن تَتبنّاه لأنَّ التحولاتِ الجاريةَ في لبنانَ والمِنطقةِ لا تَصُبُّ في مصلحتِها، من العراق حيثُ انتصَر في الانتخاباتِ الفريقُ المختلِفُ مع إيران، إلى اليمنِ حيث يتراجعُ الحوثيّون، إلى سوريا حيث تُطالب روسيا وإسرائيلُ إيرانَ بالانسحاب، إلى إيران ذاتِها حيث نَقضَت واشنطن الاتفاقَ النوويَّ وفَرضت عقوباتٍ تصاعديّةً أضعفَت الاقتصادَ والنَقد.

وفيما يؤكّدُ المجتمعان العربيُّ والدوليُّ عبرَ دولِه والجامعةِ العربيّةِ والأممِ المتّحدةِ تمسّكَهما بـ«إعلانِ بعبدا»، مؤسفٌ أنْ تنأى السلطةُ اللبنانيّةُ الحاليّةُ عنه ولا تُقدِّم بديلًا. وإذا كانت هذه السلطةُ واثقةً من نفسِها، فلتُقدِمْ وتُرسلْ مذكّرةً خطيّةً إلى الأممِ المتّحدةِ وجامعةِ الدولِ العربيّةِ بسحبِ «إعلان بعبدا»، ولْيدعُ رئيسُ الجمهوريّةِ أو وزيرُ الخارجيّةِ ـ سِيّان ـ سفراءَ الدولِ الكبرى والدولِ العربيّةِ لإبلاغِهم قرارَ الإلغاء.

أَيُعقلُ أن تكونَ الحساسيّةُ العبثيّةُ بين السلطةِ القائمةِ والرئيسِ ​ميشال سليمان​ معيارَ قَبولِ المواثيقِ الوطنيّةِ ورفضِها؟ حرّةٌ السلطةُ ألّا تُحِبَّ ميشال سليمان. هذا شأنٌّ شخصيٌّ. لكنّها ليست حرّةً أنْ تَتجاهلَ «إعلانَ بعبدا»، فهذا شأنٌّ وطنيّ. فَلْيُلْغِ، إذَن، كلُّ مَن لا يُحبُّ البطريركَ الحويك دولةَ لبنانَ الكبير، ولْيُلْغِ كلُّ مَن لا يُحبُّ ​بشارة الخوري​ و​رياض الصلح​ الاستقلالَ والميثاقَ الوطنيَّ، ولْيُلْغِ كلُّ مَن لا يُحبُّ الملكَ فهد ورفيقَ الحريري اتفاقَ ​الطائف​، ولْيُلْغِ كلُّ مَن لا يُحبُّ «حزبَ الله» انسحابَ الإسرائيليّين من الجَنوبِ ويناشِدْهم العودة. وكلُّ مَن لا يُحبُّ أمين الجميل فَلْيُعِدْ «اتفاقَ 17 أيار» مع إسرائيل و«اتفاقَ القاهرة» مع منظّمةِ التحرير الفلسطينيّةِ لأنّه هو من ألغاهُما.

وأصلًا، «إعلانُ بعبدا» ليس إعلانَ ميشال سليمان، ولا إعلانَ معراب، أو الرابية، أو طرابلس، أو المصيلح، أو المختارة لكي يؤخذَ منه موقِفٌ فئويٌّ أو شخصيٌّ. إنه إعلانُ «هيئةِ الحوارِ الوطنيِّ» مجتمِعةً في قصرِ بعبدا بمشاركةِ جميعِ القِوى السياسيّةِ والحزبيّةِ والطائفيّة، بمن فيهم قِوى السلطةِ اليوم.

غريبٌ أن نَقبلَ إعلاناتِ دمشق والقاهرة والرياض والدوحة، ونرفُضَ إعلانًا صادرًا عن قصرِ رئاسةِ الجمهوريّةِ اللبنانيّة. وغريبٌ أن تَتحفّظَ السلطةُ عن «إعلانِ بعبدا»، ولا تَنتفِضَ حين يُعلنُ السيّد ​حسن نصرالله​ أنّه لا يَسحَبُ قوّاتِه من سوريا إلا بأمرٍ من الرئيسِ بشّار الاسد! وماذا عن أوامرِ ​الرئيس ميشال عون​؟

لو كانت السلطةُ تَرفضُ «إعلانَ بعبدا» لتحسينِه ولإدخالِ نصٍّ يأمُر بنزعِ سلاحِ «حزبِ الله» فورًا، لمَزّقنا «إعلانَ بعبدا»، لكنّها تَرفُضه بغيةَ إزالةِ أيِّ نصِّ شرعيٍّ جامعٍ يُشير إلى وضعِ استراتيجيّةٍ دفاعيّةٍ وإلى تحييدِ لبنان.

ما كان «إعلانُ بعبدا» ليَحوزَ ذاكَ الاجماعَ لدى صدورِه لو لم يَكن متوازنًا وعادلًا، ولو لم يُشكّلْ مسارًا وطنيًّا نحو بناءِ الدولةِ القويّة. فجوهرُ هذا الإعلانِ نُقطتان: التهيئةُ لوِحدةِ قرارِ السلمِ والحرب، وإعلانُ تحييدِ لبنان. وقيمتُه نقطتان أُخرَيَان: صَدورُه عن الشرعيّةِ اللبنانيّةِ بإجماعٍ وطني، وتحولُّه وثيقةً عربيّةً ودوليّةً رسميّة. بعدَ «اتفاقِ الطائف»، «إعلانُ بعبدا» هو الوثيقةُ الوحيدةُ التي استحصَلت على إجماعٍ وطنيٍّ؛ لا بل افتقَد الأوّلُ الاجماعَ اللبنانيَّ والدوليَّ لدى صدورِه واعتُبر اتفاقَ الغالبِ والمغلوب. وفي هذا السياقِ، نسألُ السلطةَ الحاليّة:

هل أنتِ ضِدَّ منعِ اللجوءِ إلى السلاحِ والعنف؟

هل أنتِ ضِدَّ دعمِ الجيشِ وتمكينِه من فرضِ سلطةِ الدولة؟

هل أنتِ ضِدَّ دعمِ سلطةِ القضاءِ بصورةٍ عادلةٍ ومن دونِ تمييز؟

هل أنتِ ضِدَّ تنفيذِ خُطّةِ نهوضٍ اقتصاديٍّ واجتماعيٍّ في مختلَفِ المناطقِ اللبنانيّة؟

هل أنتِ ضِدَّ مواجهةِ الأخطارِ الخارجيّة، ولا سيَما منها الخطرُ الذي يمثّلُه العدوُّ الإسرائيليّ؟

هل أنتِ ضِدَّ تكريسِ لبنانَ مركزًا لحوارِ الحضاراتِ والديانات والثقافات؟

هل أنتِ ضِدَّ الاعترافِ بلبنانَ وطنًا نهائيًّا وبصيغةِ العيشِ المشترَك؟

هل أنتِ ضِدَّ التمسّكِ باتفاقِ الطائف ومواصلةِ تنفيذِ كاملِ بنودِه؟

هل أنتِ ضِدَّ تحييدِ لبنانَ عن سياسةِ المحاورِ والصراعاتِ الإقليميّةِ والدوليّةِ والتزامِ قراراتِ الشرعيّةِ الدوليّة؟

هل أنتِ ضِدَّ عودةِ ​اللاجئين​ الفلسطينيّين وعدمِ توطينهم؟

هل أنتِ ضِدَّ ضبطِ الأوضاعِ على طولِ الحدودِ اللبنانيّةِ ـ السوريّةِ وعدمِ السماحِ بإقامةِ مِنطقةٍ عازلةٍ في لبنانَ وباستعمالِ لبنان مقرًّا أو ممرًا أو منطلقًا لتهريبِ السلاحِ والمسلَّحين؟

هل أنتِ ضِدَّ وضعِ استراتيجيّةٍ دفاعيّة؟

أيّتها السلطةُ الحاليّةُ: إذا كنتِ تؤيّدين هذه المسَلَّماتِ الوطنيّةَ، فأنتِ حُكمًا مع «إعلان بعبدا»، لأنَّ هذه المسَلَّماتِ هي النقاطُ الواردةُ حرفيًّا في «إعلان بعبدا».

فهل... فاجأتُــكِ؟