منذ فترةٍ ليست ببعيدة، وفي ظلّ "العهد القويّ" بقيادة ​الرئيس ميشال عون​، يشهد لبنان ظاهرةً لم يسبق أن عايشها بالدرجة نفسها في العهود السابقة، أقلّه بعد ​اتفاق الطائف​، تختصرها عبارة "الحرب على العهد"، التي باتت تتكرّر بصورةٍ شبه يوميّة.

وإذا كان ما حصل قبل أيام بعد هجوم رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" النائب السابق ​وليد جنبلاط​ على العهد ووصفه بـ"الفاشل" خير دليلٍ، فإنّ "الشواهد" على هذه "الحرب"، كما يصنّفها مؤيدو الرئيس عون، تتعدّاه، لتصل إلى معظم القضايا التي أثيرت في الآونة الأخيرة، من أزمة النزوح، إلى ​مرسوم التجنيس​، مروراً بإثارة حصّة الرئيس الوزاريّة بشكلٍ غير عفويّ.

ولكن في المقابل، ثمّة من يتحدّث عن "حرب" يشنّها "العهد" على المعارضين، قد يختصرها أيضاً "الهجوم المباغت" الذي تعرّض له جنبلاط من كلّ حدبٍ وصوب بسبب تعرّضه للعهد، ما يدفع البعض إلى طرح أسئلة قد لا تكون بريئة عموماً، إذ هل باتت المعارضة بحدّ ذاتها ممنوعة في ظلّ "العهد القوي"؟ وما هي الضوابط التي يفترض التزامها على هذا الصعيد؟.

حملات مشبوهة

صادمة أتت تغريدة رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" في صبيحة عيد الفطر، التي لم يخرق فيها عطلة العيد فحسب، بل "الهدوء السياسي" الذي تشهده البلاد أيضاً. صادمةً أتت التغريدة لأنّ "البيك" رفع سقف الهجوم على العهد، واصفاً إياه بـ"الفاشل"، بعد فترةٍ من الأخذ والعطاء معه، أو ما يعتبرها البعض "مهلة السماح" التي تبدأ مع انطلاقة كلّ عهدٍ.

لكن صادمةً أكثر بدت الردود على التغريدة التي توالت من أغلب أعضاء تكتل "لبنان القوي" ووزراء "​التيار الوطني الحر​" والتي رُفِعت فيها الأسقف الكلامية إلى أعلى مستوى، ما استدعى ردوداً مضادة من نواب ووزراء "اللقاء الديمقراطي" شُرّعت فيها كلّ الأسلحة، وأدّى في نهاية المطاف إلى "مفاوضات" للتوصّل إلى "هدنة" دخلت حيّز التنفيذ، لكنّها قد تسقط في أيّ لحظة.

لكن بالنسبة لـ"التيار"، فإنّ حملته "الدفاعية" عن رئيس الجمهورية لم تأتِ من العَدَم، فهو لا ينظر إلى تغريدة جنبلاط "المريبة" برأيه، سوى على أنّها "جزءٌ من كلّ"، وبالتالي هو يضعها في خانة الهجوم المتكرّر وغير المبرَّر على العهد، والذي لا يهدف سوى لإضعافه وتقييده والتضييق عليه، ومنعه بالتالي من تحقيق الإنجازات التي يصبو إليها.

ويستدلّ "العونيون" على وجهة النظر هذه من خلال "الضجّة المفتعلة" التي أحاطت مؤخراً مرسوم التجنيس الذي صدر، فحتى لو صحّ ما يُحكى عن أنّ المرسوم أعطى الجنسية لغير مستحقّيها، إلا أنّ الأمر المُستفِزّ كان تركّز الحملات على رئيس الجمهورية، على الرغم من أنّه واحدٌ من ثلاثة أطراف وقّعوا المرسوم، بينهم رئيس الحكومة ​سعد الحريري​ ووزير الداخلية نهاد المشنوق، علماً أنّ الرئيس عون كان الوحيد الذي تفاعل إيجاباً مع الاعتراضات الشعبية والإعلامية، رغم إدراكه أنّه كان المقصود من كلّ ما حصل.

ولأنّ كلّ ذلك ترافق مع إثارة مسألة حصّة رئيس الجمهورية في الوزارات، من قِبَل من كانوا حتى الأمس القريب يتمسّكون بها، على اعتبار أنّها تشكّل ضمانة لرئيس الجمهورية بعد سلبه معظم صلاحياته في اتفاق الطائف، فإنّ "العونيين" يعتبرون كلّ هذه الحملات "المشبوهة" كما يصفونها، مسلسلاً متكاملاً، لا يهدف عملياً سوى لضرب العهد في الصميم، وهنا بيت القصيد.

أين المعارضة؟

هي "حربٌ على العهد" إذاً، يؤكد "التيار الوطني الحر"، والشواهد على ذلك كثيرة. لكن في المقابل، هناك شواهد أكثر على أنّها "حرب العهد على المعارضين"، برأي البعض، وكأنّ المطلوب عدم انتقاد العهد بتاتاً، تحت طائلة "التخوين"، الذي طال حتى المتفاهمين مع "العهد"، كحزب "القوات اللبنانية" الذي اعتُبِر من "المتواطئين" ضدّ العهد، رغم إصراره على أنّه لا ينتقده إلا "على القطعة"، تماماً كالتحالفات التي خاضها "التيار" في الانتخابات الأخيرة.

من الشواهد نفسها التي يعتبرها "التيار" دليلاً على وجود "حرب على العهد"، ينطلق المعارضون لتأكيد العكس، وهو ما ثبّتته الأزمة التي خلفتها تغريدة جنبلاط، والتي كادت تشعل نار الفتنة، أو "تفتح نار جهنم" كما نُسِب لأحد نواب "التيار". فبالنسبة لهؤلاء، حتى لو كان جنبلاط رفع السقف عالياً في مواجهته مع "التيار"، المرتبطة أصلاً بمفاوضات تأليف الحكومة، وامتعاض "البيك" من إصرار رئيس الجمهورية على تجاوزه رغم تثبيت نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة، التي ارتضاها "التيار" معياراً لتأليف الحكومة، "زعامته" على الساحة الدرزية، إلا أنّه لم يرتكب "جريمة" بوصفه العهد بـ"الفاشل" من وجهة نظره.

من هنا، يرى المعارضون أن الردود التي اصطدم بها جنبلاط والتي حملت من "التجريح" أكثر بكثير من عبارة "عهد فاشل"، حتى أنّ الإعلام "العوني" ذهب إلى حدّ التباهي بهجوم جنبلاط لأنّه الدليل على صوابية خيارات العهد، هي التي يفترض أن تثير الإشكالية في البلاد لا العكس، على اعتبار أنّ حق المعارضة هو حقٌ مقدَّسٌ يكرّسه دستور البلاد، بل إنّ الرئيس عون نفسه ومجموعة المدافعين عنه اليوم سبق أن هاجموا العهود السابقة ووصفوها بما هو أكثر بكثير من "الفشل"، من دون أن يُتّهَم أحد بالتواطؤ أو بالوقوف خلف "مؤامرة" تستهدف العهد.

ويستند معارضو العهد أيضاً إلى مرسوم التجنيس الأخير للتأكيد على أهمية استمرار المعارضة في المرحلة المقبلة، أياً كانت الضغوطات التي تتعرّض لها، إذ إنّ تصاعد الحملات ضدّ المرسوم هي التي أدّت إلى تحويله إلى قضية رأي عام، وصولاً إلى تجميد مفاعيله، وفتح تحقيقٍ إضافيّ فيه من جانب الأمن العام، تشير المعطيات إلى أنه سيفضي في النهاية إلى حجب الجنسية عن غير مستحقّيها، ممّن كانوا اليوم يتنعّمون بها، فيما لو أنّ المعارضة سكتت، كما كان مقدَّراً لها أن تفعل.

مبالغاتٌ بالجملة

لا شكّ أنّ مؤيدي "العهد القوي" كما معارضيه يبالغون في مقاربتهم للأمور. فإذا كان من غير المنطقيّ اعتبار كلّ انتقادٍ لأداء رئيس الجمهورية أو غيره في أيّ ملفٍ، مهما كبر أو صغر، بمثابة "شراكة في حربٍ على العهد"، بل ذهاب البعض لحدّ ربطها بأجنداتٍ إقليميّة وخارجيّة، من غير المنطقيّ أيضاً في المقابل القول إنّ هناك من يريد إنهاء المعارضة عن بكرة أبيها، في بلدٍ قد تُطرَح الكثير من علامات الاستفهام حول جوهر "الديمقراطية" فيه، لا حول "حرية الرأي".

ويبقى الأولى من هذا وذاك، أنّ من يعتبر أن الحكم يقوم على الموالاة والمعارضة لا يمكنه النظر إلى الأمور باستنسابيّة، والمطلوب أن يُسمَح للحكم بممارسة دوره بكلّ مسؤولية من دون أحكام مسبقة، وأن يُسمَح في المقابل للمعارضة بممارسة دورها أيضاً من دون إطلاق النار عليها وتخوينها كلما تجرأت على الاعتراض...