فجأة تجمّعت المستجّدات الداخلية والاقليمية والدولية الضاغطة على ​لبنان​. لم يشعر اللبنانيون بحدّة تداعياتها السلبية حتى الان. لكن الأسابيع المقبلة سترسم معالم اقتصاديّة مؤلمة، في حال بقيت المساعدات ونتائج مؤتمر "سيدر" مجمّدة في ثلّاجة الترقب الخارجي لمسار الحكومة اللبنانية العتيدة. الوضع المالي يتدهور بصمت. التجارة والصناعة والزراعة نحو الكوارث. الثقة الدوليّة بلبنان تهتزّ. كلّه مرتبط بالحكومة العتيدة التي يجب أن تحظى بثقة محليّة وخارجيّة، وألاّ تكرّر توزير شخصيات تفوح حولها روائح صفقات، في زمن النيّة السياسيّة بمحاربة الفساد.

سياسيّون لبنانيّون محسوبون على قوى "14 آذار"، يطرحون في جلساتهم أسئلة، سرعان ما يستتبعونها بأجوبة فورية: لماذا افتعل رئيس الحزب "التقدمي الاشتراكي" ​وليد جنبلاط​ حملة قاسية على العهد؟ هل بسبب حسابات درزية تتعلق بعدم رغبته توزير النائب ​طلال ارسلان​ فقط؟ أم بعد زيارته المملكة العربية ​السعودية​؟ قد تكون تلك العناوين ساهمت في اندفاعة جنبلاط نحو انتقاد العهد، لكن السبب الأساسي برأي أولئك السياسيين، هو "أن جنبلاط قرأ مؤشرات دوليّة عدّة دفعته الى الانتقام من العهد في الفرصة المناسبة". جاءت حملة "البيك" في "عز الانتقاد الدولي الضمني للعهد اللبناني". يقول هؤلاء السياسيون: الاتحاد الأوروبي الذي يحيّد نفسه عادة عن السجالات، والنزاعات، استاء من تصريحات وزير الخارجية في حكومة تصريف الأعمال جبران باسيل بشأن النازحين السوريين، وترجم استياءه بردود وبيانات للسفراء والمندوبين، قبل وصول المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل الى بيروت. يعترف السياسيون أن موقف باسيل من النازحين أفاده شعبيا في الساحة المسيحية، للخروج من سلسلة أزمات، ما اضطر حزبا "القوات" و"الكتائب" الى اللحاق به، تحت عنوان تأييد موقف رئاسة الجمهورية، مع تمايز بسيط فيما يخصّ العلاقة مع دمشق. لكن، تصرفات وزير الخارجية أزعجت رئيس الحكومة سعد الحريري الذي أوعز الى نوّابه بالصمت والترقب، ليتولى مفتي الجمهورية الشيخ عبداللطيف دريان الرد بالهجوم على موقف باسيل. يدرك الحريري أن موقف دريان يلائم السياسة السعودية، لكن الحريري لم يسمع كلاما صريحا من الرياض بشأن الملفات اللبنانية، وهو كان ينتظر لقاء ولي العهد محمد بن سلمان في زيارته الأولى للسعودية، ثم موسكو، ثم زيارته المملكة مجدّدا. لم يصدر أي تلميح سعودي للحريري بشأن تأليف حكومته، ولا حول ملف النازحين السوريين. لكن الحريري يدرك أن لا قدرة له على تجاوز رغبات المملكة، خصوصا ازاء حصص الحلفاء، وتحديدا "القوات".

لا ترغب الرياض بالطبع بتعطيل المسار الحكومي اللبناني، لكن "ما ستحصل عليه غدا"، أفضل مما تحصّله الآن، لجهة التوازنات في حصص حلفائها، بحسب كلام السياسيين أنفسهم. لماذا؟ تعتبر السعودية أن الضغط الغربي على لبنان، عبر العقوبات المالية التي تطال "​حزب الله​"، ضمن خارطة طريق أميركية تستهدف ايران وحلفاءها، يخفّض من السقف السياسي الذي ينتهجه الحزب في الداخل اللبناني، "لأن الآتي ماليا، أشد صعوبة على حزب الله، الى حد تحقيق ما عجزت عنه الحروب في لبنان وسوريا. يردد السياسيون انفسهم عبارات القلق على لبنان، في ظل ازمات اقتصادية اقليمية تتمدد بسرعة. ما يزيد الأمر سوءا، ان نتائج مؤتمر "سيدر" مقرونة التنفيذ، بشكل وخطة وبيان الحكومة العتيدة. لا حكومة موثوق بقدراتها: لا مساعدات مالية.

لا يكتفي هؤلاء السياسيون بهذا التوصيف، بل يستحضرون مشكلة الحدود اللبنانية الجنوبيّة: طرح الأميركيون تفاوضا للترسيم الحدودي اللبناني على طول الجنوب من الناقورة الى داخل مزارع شبعا، وافق رئيس المجلس النيابي ​نبيه بري​ في المبدأ، ثم غاب الملفّ عن الواجهة اللبنانيّة فجأة. من يعارض الترسيم؟ ما هو الموقف الفعلي "لحزب الله"؟ وهل يريد "محور المقاومة" ربطه بالجنوب السوري؟ كلّها عناوين ناقشها الحريري مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين "بتغييب" باسيل عن اجتماع موسكو، رغم وجود وزير خارجية روسيا الاتحادية سيرغي لافروف. يعتقد السياسيون أنفسهم أن موسكو لم توافق على اصطحاب الحريري لباسيل في زيارته. قد يكون الموقف الروسي ناجما عن رغبة بوتين بمعرفة رأي الحريري وحده بمسألتين حسّاستين: الجنوب اللبناني، والنازحين السوريين. خصوصا أن الروس يقودون محاولات لفرض تسويات في الجنوب السوري، بالتواصل مع ​اسرائيل​. بينما تطرح تل أبيب على الروس وجوب توسيع التسوية–الصفقة لابعاد "حزب الله" عن الحدود الجنوبية اللبنانية أيضا. ومن هنا جاء الطرح الأميركي بترسيم الحدود الجنوبية اللبنانية. يريد الاسرائيليون استغلال الفرصة السوريّة، للاستفادة منها أيضا في لبنان. الهدف عندهم: اتمام "صفقة القرن" وتوسيع مداها وصداها، من دون تشويش ميداني.

العقبات الفلسطينية بمواجهة "صفقة القرن" موجودة، لكن جهودا خليجية وغربية ومصرية تتكافل لايجاد حل متوازن لها. رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتانياهو استعجل استطلاع وضع الاردن بزيارة عمّان بعد تظاهرات كادت تودي بالمملكة الهاشمية الى الفوضى، وفي هذه الحالة، لا يتناسب الفلتان مع أمن اسرائيل. لكن هاجس عمّان هو الوضع الاقتصادي الذي يزداد سوءا، ما يتطلّب دعما ماليا فوريا، وفتح المعبر السوري–الأردني لعودة التجارة والترانزيت في معبر نصيب أولا.

العنوان الجنوبي والأمني في لبنان والمنطقة، هو محور اهتمام أميركي، يتوقّع السياسيون انفسهم أن يكون مدار حديث أميركي مع قائد الجيش العماد جوزيف عون في زيارته المرتقبة الى الولايات المتحدة. بالنسبة اليهم رأي المؤسسة العسكرية اللبنانية مهم جدا، بمعزل عن الاتجاهات السياسية.

كل تلك العناوين تتزاحم في أيام تأليف الحكومة اللبنانية، ما يدفع بالعملية نحو التأجيل لمسافة زمنية غير محدّدة، قد تكون أسبوعين أو أكثر، لاتضاح الرؤى والضمانات حول الملفات التي تمّ استحضارها، بحسب السياسيين أنفسهم.