قبل الانتخابات الرئاسية التي أفضت إلى انتخاب العماد ​ميشال عون​ رئيساً للجمهورية، انقلب "​التيار الوطني الحر​" على نفسه برأي كثيرين. بين ليلةٍ وضُحاها، رمى كلّ خصومات الماضي جانباً، ليحلّ مكانها خطابٌ وفاقيّ، تصالحيّ مع جميع الفرقاء، حتى من كانت تربطهم به خصومة تاريخيّة، وحتى دمويّة، وفي مقدّمهم "​القوات اللبنانية​".

وفي الانتخابات النيابية الأخيرة، كرّس "التيار" هذا المنحى، من خلال تحالفاتٍ عابرة للمناطق، جعلته يشبك يده بيد الكثير ممّن خاصمهم طويلاً، بمن فيهم حتى "الجماعة الإسلامية"، بل إنّه حاول القفز على "المعارك" التي خاضها، ولو رفع فيها الأسقف إلى أعلى المستويات، عبر الإيحاء بأنّها مجرّد "معارك انتخابية" من دون معانٍ أو تداعيات سياسيّة.

اليوم، ومع انتهاء "سكرة" الانتخابات وبدء "فكرة" الحكومة وما سيليها من استحقاقات، يرى البعض أنّ "انقلاباً" جديداً بدأ يظهر في سياسة "التيار"، يترجم من خلال الشعور بأنّه لم يتخلّ فحسب عن سياسة "التفاهم" مع الجميع، وإنما استبدلها بـ"الخصومة المطلقة"، خصومةٌ لم توفّر حتى الآن سوى "​حزب الله​" و"​تيار المستقبل​"، وإن كادت الجرّة تنكسر حتى معهما في وقتٍ من الأوقات...

خصوماتٌ بالجملة

باستثناء "حزب الله" ربما ومع بعض الضوابط والحدود، لم يعد يمكن الحديث عن "حلفاء" بالمعنى الحرفيّ للكلمة لـ"التيار الوطني الحر"، سوى أولئك الذين انضووا عملياً داخل تكتل "لبنان القوي". فقد بدا واضحاً في الفترة الأخيرة أنّ التحالفات التي أرساها "التيار" في السنتين الماضيتين، توازياً مع انتخاب مؤسسه العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، لم تعد تشكّل الأولوية بالنسبة إليه، بل إنّ البعض بات يشعر وكأنّ "التيار" اختار في هذه المرحلة، وبملء إرادته، "الاستغناء" عن "خدمات" الحلفاء، التي أصبحت تضرّ أكثر ممّا تفيد.

وإذا كانت العلاقة مع "​تيار المردة​" و"​حزب الكتائب​" وبعض الشخصيات المسيحية المستقلة مقطوعة منذ فترةٍ طويلةٍ، كون التلاقي في الانتخابات الرئاسية لم يحصل، فإنّ "تفاهم معراب" مع "القوات اللبنانية" بدوره يترنّح، ولو أصرّ طرفاه على محاولة "إنعاشه" منعاً لعودة الأمور إلى الوراء، بدليل "الأعيرة النارية" التي تبادلاها في المرحلة الأخيرة على أكثر من ملف، ما جعلهما في تضادٍ شبه كامل، كرّسه ما يُحكى عن "عقدة مسيحية" تحول دون تأليف الحكومة هما بطلاها بطبيعة الحال. وإذا كانت العلاقة مع رئيس المجلس النيابي نبيه بري تمرّ بفترة "هدنة" حالياً تبقى قابلة للسقوط في أيّ لحظة، تماماً كالعلاقة مع "الحزب التقدمي الاشتراكي" التي انفجرت خلال الأسبوع الماضي، فإنّ "حزب الله" و"تيار المستقبل" لا يبدوان بمنأى عن "الخصومة المستجدّة"، وهو ما تُرجِم "توتراً انتخابياً" مع الأول في أكثر من منطقة، و"توتراً" على خط أزمة النزوح ومقاربتها مع الثاني، خصوصاً لجهة مواجهة المجتمع الدولي.

ولعلّ مطالبة "التيار" بشكلٍ أو بآخر بالثلث الضامن أو المعطّل في الحكومة له ولرئيس الجمهورية بمعزلٍ عن أيّ حليفٍ خير دليلٍ على أنّ مقاربته باتت مختلفة، خصوصاً أنّه في التجارب الحكومية السابقة كان يحرص على أن يحصل مع حلفائه على هذا الثلث، فيما يسعى اليوم إلى "احتكاره"، لحفظ نوعٍ من "الاستقلالية" عن الجميع، يجعله قادراً على فرض رؤيته بمعزلٍ عن أيّ رأيٍ آخر، خصوصاً مع انهيار الكثير من التحالفات السابقة، وانتهاء الانقسام التقليدي بين فريقي الثامن والرابع عشر من آذار، علماً أنّ "التيار" لم يكن يحبّذ أصلاً احتسابه على أحدهما بالمُطلَق.

سياسة دفاعية؟

عموماً، إذا كانت الوقائع الملموسة على الأرض توحي بافتراق "التيار" عن معظم الحلفاء في غالبية الملفات والاستحقاقات، سواء بالمطلق أو "على القطعة" وفق الموضة اللبنانية الرائجة منذ الانتخابات، فإنّ الأكيد أنّ "التيار" ينفض يده من هذه النتيجة، محمّلاً الآخرين وصول الأمور إلى ما وصلت إليه، داحضاً عن نفسه تهمة "الاستغناء" عن "الحلفاء"، لعدم توافر الحاجة إليهم في هذه المرحلة.

يقول المقرّبون من "التيار" إنّه ينتهج "سياسة دفاعية" لا أكثر، انطلاقاً من حرصه على "العهد القوي"، خصوصاً أنّه يعتبر نفسه "أم الصبي" على هذا الصعيد، وبالتالي فهو ليس في معرض الهجوم على أحد، ولكنّ كلّ ما يفعله هو صدّ "الهجمات المرتدّة" التي تُصوَّب على العهد من كلّ حدبٍ وصوبٍ ومن دون مبرّرات، والمفارقة أنّ بعضها يأتي من الأقربين قبل الأبعدين، ومن الأصدقاء قبل الخصوم. ولعلّ ما حصل مع "الحزب التقدمي الاشتراكي" مثلاً دليلٌ على ذلك، إذ إنّ "الحملة" التي شنّها "التيار" على رئيسه النائب السابق وليد جنبلاط أتت كردّة فعل على هجوم الأخير المفاجئ والمباغت على العهد، ووصفه بـ"الفاشل" من دون أيّ مقدّمات، علماً أنّ رئاسة الجمهورية حرصت على البقاء بمنأى عن هجوم "البيك" الذي ربطته بمفاوضات تأليف الحكومة، في ضوء الخلاف حول توزير رئيس الحزب "الديمقراطي اللبناني" الوزير والنائب طلال أرسلان.

لكن رغم كلّ هذه التبريرات، يبدو واضحاً لأيّ مراقب أنّ شيئاً ما تغيّر في تعاطي "التيار الوطني الحر" مع باقي الأفرقاء، وهو ما لا ينكره المحسوبون عليه، الذين يتصرّفون وكأنّ "العهد بدأ فعلياً الآن فقط، وبعد الانتخابات"، وبالتالي فتماماً كما أنّ "مرحلة السماح" التي يقول البعض إنّها انقضت للتصويب على العهد رغم كلّ ما تحقق، فإنّها انقضت أيضاً بالنسبة للعهد، الذي بات عليه العمل بوتيرةٍ أكبر لتحقيق ما يصبو إليه. ويلفتون إلى أنّ هذا الأمر لا يرتبط بـ"مصلحة" التيّار التي تبقى بطبيعة الحال في تعزيز "التحالفات" لا العكس، خصوصاً أنّ رئيس "التيار" مرشحٌ جديّ لخلافة الرئيس عون بعد انقضاء ولايته، إلا أنّ مصلحة "العهد" تبقى الأهمّ اليوم، يقول المعنيّون.

نمط جديد...

بين الدفاع والهجوم، الأكيد أنّ "التيار الوطني الحر" اليوم لم يعد نفسه قبل الانتخابات النيابية الأخيرة. هو يقول إنّه "يطبّق" أجندته، التي يصنّفها "وطنية" بامتياز، ولا يكترث لشيءٍ آخر، ولو أتى ذلك على حساب تحالفاته وصداقاته، التي يبقى حريصاً عليها في الوقت نفسه ولو بالحدّ الأدنى.