منذ إتفاق "سايكس بيكو" عام 1916(1) ومن ثم قرار تقسيم ​فلسطين​ رقم 181 الذي صدر عن الجمعيّة العامة التابعة لهيئة ​الأمم المتحدة​ سنة 1947، وقضى بإنهاء الإنتداب البريطاني على فلسطين وتقسيم أراضيها إلى ثلاثة كيانات جديدة(2)، تعيش المنطقة إرتدادات الصراع العربي–الإسرائيلي من حروب ومواجهات وأزمات نازحين لم تنته فُصولاً بعد. ومنذ "إتفاق أوسلو" الذي وقعته إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينيّة في واشنطن في العام 1993(3)، تُحاول الإدارة الأميركيّة إنهاء هذا النزاع، لكنّ تقديم مصلحة إسرائيل على الفلسطينيّين حال دون ذلك حتى تاريخه. فهل سينجح الرئيس الأميركي الحالي ​دونالد ترامب​ اليوم، أي بعد مُرور ربع قرن على بدء مُحاولات إنهاء النزاع، بفرض ما صار يُطلق عليه إسم "صفقة القرن" بالقوّة، لتصفية "القضيّة الفلسطينيّة"؟.

بداية، لا بُد من الإشارة إلى أنّه في الأشهر والأسابيع القليلة الماضية زاد الحديث عن تحضير الإدارة الأميركيّة لتسوية كبيرة للقضيّة الفلسطينيّة قد يتمّ الإعلان عنها في الأشهر القليلة المُقبلة، حيث أجرى مبعوثا الرئيس الأميركي دونالد ترامب، أي كل من جاريد كوشنير وجيسون جرينبلات، سلسلة من الإجتماعات العالية المُستوى في المنطقة، والتي ركّزت على تسويق أفكار الإدارة الأميركيّة لحلّ النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني. لكنّ حتى تاريخه لم ينجح الموفدون الأميركيّون في إنتزاع موافقة السُلطة الفلسطينيّة على الحلول المطروحة، ولا في تأمين التغطية العربيّة المطلوبة لها، على الرغم من الضغوط الكبيرة المُمارسة على رئيس السُلطة الفلسطينيّة محمود عبّاس وعلى كل من السُعوديّة ومصر والأردن. لكن يُوجد تخوّف من نجاح إدارة ترامب في نهاية المطاف من فرض ما يُسمّى "صفقة القرن" مُستفيدة من الصراع المُحتدم بين العديد من دول الخليج من جهة و​إيران​ والدول العربيّة الحليفة لها من جهة أخرى، وكذلك من حاجة ​السعودية​ للدعم العسكري الأميركي، ومن ضُعف كل من مصر والأردن الإقتصادي وحاجتهما إلى مُساعدات مالية وإلى إستثمارات إقتصادية كبيرة وسريعة.

إشارة إلى أنّ الخطة الأميركيّة المطروحة، والتي يتمّ تسريب بعض بُنودها إلى العلن كل فترة، من باب التسريبات الإعلامية حينًا ومن باب جسّ النبض وتقييم ردّات الفعل حينًا آخر، تصبّ في مصلحة إسرائيل بشكل كامل، حيث أنّ الإنحياز الأميركي واضح في أغلبيّة بنودها(4)، لجهة عدم السماح بعودة اللاجئين، وإبقاء سيطرة إسرائيل على كامل مدينة ​القدس​، وإستمرار عمليّات الإستيطان، إلخ. وذلك في مُقابل منح الفلسطينيّين فرص عمل وحوافز مالية وإقتصاديّة، والعمل على تحويل "دويلتهم" الموعودة إلى منطقة إقتصادية ومالية شبيهة بسنغافورة!.

وبالنسبة إلى علاقة لبنان بصفقة القرن فهو معنيّ مثله مثل مُختلف دول الجوار التي تستقبل لاجئين فلسطينيّين على أراضيها، حيث أنّ بنود خطة فريق عمل ترامب لا تتضمّن أي عودة للاجئين، ما يعني بقاء كل اللاجئين حيث هم. وفي المعلومات أنّ فريق عمل ترامب يُخطّط لإنهاء دور وكالة الأمم المتحدة للاجئين "​الأونروا​"، بالتزامن مع الإبقاء على الأموال والمساعدات الدَولية التي كانت تُرسل لها، على أن تُصبح وجهتها الدول المُضيفة للاجئين مُباشرة، بحيث تتولّى هذه الدُول الإستفادة من هذه الأموال بشكل مُباشر على أن تعمل بنفسها على مُعالجة مُشكلة النازحين لديها، إمّا عبر الإستفادة من طاقاتهم الإنتاجيّة أو عبر تجنيسهم، إلخ.

في الختام، إنّ سعي الإدارة الأميركيّة الحالية إلى تسويق "صفقة القرن" لا يعني أنّها صارت بحكم القائمة، على الرغم من التقدّم السرّي المُحقّق بشأنها مع أكثر من جهة فاعلة ومؤثّرة، وذلك بفعل الضُغوط والتأقلم مع الأمر الواقع. لكن في المُقابل، تجري أكثر من مُحاولة لإفشال هذه الخطة في مهدها-كما جرى إفشال أكثر من خطّة شبيهة منذ "معاهدة أوسلو الأولى" في العام 1993 حتى اليوم، وأولى بوادر هذه المُحاولات عودة عمليّات إطلاق الصواريخ الفلسطينيّة، والعمل على تسخين الوضع الأمني مع إسرائيل على أكثر من جبهة لإفشال أي محاولة لتمرير التسوية الأميركيّة غير العادلة.والأمور تبقى مرهونة بنهاياتها...

(1) قسّم مناطق النفوذ في ما يُعرف بإسم الهلال الخصيب في الشرق الأوسط بين ​فرنسا​ و​بريطانيا​ بمُصادقة من الإمبراطوريّة الروسيّة آنذاك، على حساب هزيمة الدولة العثمانية في منتصف العقد الثاني من القرن الماضي.

(2) الكيانات الثلاث هي: دولة عربيّة تبلغ مساحتها 11000 كلم. مربّع (أي 42,3% من فلسطين)، ودولة يهوديّة تبلغ مساحتها 15000 كلم. مربّع(أي 57,7% من فلسطين)، على أن تبقى القدس و​بيت لحم​ والأراضي المُجاورة تحت وصاية دَوليّة.

(3) "إتفاق أوسلو 1" تمّ في عهد الرئيس الأميركي بيل كلينتون، وأشرف على توقيعه مُباشرة رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحاق رابين ورئيس منظّمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات، وهو نصّ على إقامة سُلطة حكم ذاتي إنتقالي في الضفة الغربيّة و​قطاع غزة​ لفترة إنتقالية وإلى حين التوصّل إلى تسوية دائمة.

(4) من البُنود المُسرّبة لما يُعرف بإسم "صفقة القرن"، بقاء القُدس مدينة موحدّة وعاصمة لإسرائيل مع تنازل محدود ورمزي عن بعض الأحياء خارج جدار الفصل لصالح الفلسطينيّين، وعدم عودة اللاجئين الفلسطينيّين مع تقديم حوافز مالية للدول التي تستضيفهم وإطلاق إستثمارات لتوظيفهم في الأردن وفي منطقة سيناء في مصر، وتغطيّة عمليّات ​الإستيطان الإسرائيلي​ وشرعنتها، والعمل على تجريد "الدويلة" الفلسطينيّة الموعودة من السلاح.