إعلان ​واشنطن​ تخليها عن دعم التنظيمات الإرهابية التابعة لها في الجنوب السوري، وتركها وحيدة تواجه هجوم الجيش السوري وحلفائه، نزل كالصاعقة على قادة المسلحين الذين صدموا من القرار الأميركي، كما صدموا في الغوطة الشرقية من دمشق من تلاشي الوعود الغربية بدعمهم، بعدما انتظروا طويلاً مجيء الدعم من الدول الغربية الاستعمارية التي دفعت بهم إلى المواجهة ورفض المصالحة مع الدولة السورية رهاناً منها على معركة طويلة تستنزف الدولة السورية على أبواب العاصمة دمشق تجبرها على تليين مواقفها وتوافق على بعض الاشتراطات الأميركية لتسهيل حلّ الازمة، فإذا بهذه الدول تخسر رهانها على صمود المسلحين أمام هجوم الجيش السوري. فانهارت مواقع المسلحين تباعاً وبسرعة قياسية، ولم تنفع أكذوبة الهجوم الكيماوي المفبرك لحماية المسلحين في معقلهم الأخير في مدينة دوما.

على أنّ الرسالة الأميركية للمسلحين في جنوب سورية كانت الأوضح لناحية التسليم الأميركي بالعجز عن منع الجيش السوري من العمل على استرداد كافة المناطق التي تخضع لسيطرة الإرهابيين المدعومين من كيان العدو الصهيوني والولايات المتحدة والأنظمة الرجعية التابعة لواشنطن، وترك هؤلاء الإرهابيّين يواجهون مصيرهم المحتوم بالموت أو التسليم للدولة السورية أو الرحيل إلى محافظة إدلب التي باتت أشبه بمكب يرمى فيه المسلحون الذين يرفضون المصالحة بشروط الدولة السورية، بانتظار المعركة النهائية التي ستنتهي بالقضاء.

وهذا يؤشر بشكل لا لبس فيه إلى فشل مدوّ لسياسة التهديد والوعيد الأميركية التي حاولت أن توفر مظلة حماية للمسلحين تحول دون حصول هجوم الجيش العربي السوري، وإبقاء مناطق الجنوب السوري رهينة أميركية لاستخدامها ورقة مساومة في المفاوضات السياسية لحلّ الأزمة. كما يؤشر إلى انتصار إرادة الدولة الوطنية السورية وقرارها الحازم بتطهير كلّ المناطق السورية من رجس الإرهابيين وعدم السماح بأيّ مساومة أو تهاون في ذلك حتى ولو أدّى ذلك إلى حرب أو مواجهة كبرى مع العدو الصهيوني والقوات الأميركية المحتلة لأجزاء من الأرض السورية، وهو ما وضع صنّاع القرار في واشنطن وتل أبيب أمام خيار عدم الذهاب إلى مثل هذه المواجهة غير المضمونة النتائج بالنسبة لهم لا سيما أنّ المواجهة الكبرى مع محور المقاومة المدعوم روسياً سوف تعرّض الكيان الصهيوني والقواعد الأميركية في سورية والعراق والخليج إلى القصف بشتى أنواع الصواريخ في وقت ليس هناك توجه أميركي للانزلاق إلى حرب استنزاف واسعة أشرس وأكبر من حربي العراق وأفغانستان تتطلب أن يزجّ فيها عشرات آلاف الجنود الأميركيين في وقت لم تزل الولايات المتحدة تلملم جراحها وتعالج وتحتوي نتائج خسائرها المادية التي تجاوزت الـ 6 تريليونات من الدولارات بفعل المقاومة التي واجهتها وأجبرتها على الرحيل عن العراق من دون أن تتمكّن من تحقيق الأهداف التي جاءت من أجلها.

انّ هذا التطوّر الهامّ في مسار المواجهة بين الدولة الوطنية السورية وحلفائها من جهة، والولايات المتحدة الأميركية والكيان الصهيوني من جهة ثانية، ستكون له بلا شك نتائج وتداعيات متسارعة على أرض الميدان في الجنوب وعلى ما تبقى من معارك في شمال وشرق سورية، أهمّها:

أولاً: في الجنوب السوري، سيؤدّي قرار التخلي الأميركي عن نجدة الإرهابيين في مواجهة هجوم الجيش السوري، إلى توليد حالة من اليأس والإحباط في صفوف المسلحين من إمكانية الصمود مما سيتسبّب في ظهور انقسامات بين من يدعو إلى القتال وعدم الاستسلام وبين من يدعو إلى الدخول في التسوية على قاعدة من يريد المصالحة مع الدولة ومن يريد أن يغادر إلى إدلب، واحتمال أن تتجه الأمور في هذا المنحى قوية ويعزز منه موقف أهالي البلدات والقرى الذين سيضغطون على المسلحين وقادتهم للدخول في التسوية وعدم الاستمرار في معركة خاسرة ستؤدّي إلى تدمير المناطق وقتلى وجرحى وفي النهاية ستكون النتيجة هي الهزيمة المحتومة. ولهذا من المتوقع أن نشهد انهيارات سريعة في مواقع المسلحين أمام هجوم الجيش السوري، تسرّع في إنضاج قادة المسلحين لاختصار الأمر وقبول التسوية على غرار ما حصل في أرياف دمشق وحمص وغيرها من المناطق. على انّ تحرير الجنوب السوري سيؤدّي إلى عودة سيطرة الدولة السورية على كامل الحدود مع الأردن ومناطق فصل القوات في الجولان السوري المحتلّ، ليسقط بذلك رهان العدو الصهيوني على إقامة منطقة حزام أمني يتواجد فيها الإرهابيون على غرار منطقة الحزام الأمني التي أنشأها في جنوب لبنان بعد اجتياح عام 1978.

ثانياً: انّ تحرير الجنوب السوري سوف يؤدّي إلى خلق ظروف ومناخات جديدة لمصلحة قرار الدولة السورية في العمل على الإسراع في إنهاء وجود التنظيمات الإرهابية والقوات الأجنبية المحتلة في شمال وشرق سورية، ذلك أنّ القرار الأميركي بالتخلي عن الإرهابيين في جنوب سورية سوف يسهّل على واشنطن اتخاذ مثله في الشمال والشرق لنفس الاعتبارات التي تجعلها تمتنع عن الذهاب إلى مواجهة شاملة مع الجيش السوري وحلفائه عندما يبدأون معركة تحرير ما تبقى من مناطق خارج سيطرة الدولة السورية.

لا شك في أنّ رسالة الإدارة الأميركية للمسلحين في الجنوب السوري بأنّ الحكومة الأميركية تطلب من قادة المعارضة السورية ضرورة «ألا تبنوا قراراتكم على افتراض أو توقع قيامنا بتدخل عسكري» إنما هي تأكيد جديد على أنّ واشنطن ليست مستعدة للقتال دفاعاً عن أدواتها وأنها تقاتل بهم وفي اللحظة الأخيرة تتركهم يواجهون مصيرهم المحتوم، وهذا درس جديد لكلّ من راهن على السير في ركب السياسة الأميركية واعتقد واهماً أنّ أميركا سوف تقف إلى جانبه إلى النهاية وتدافع عنه، فواشنطن لا تتوانى عن التخلي عمن قدّم لها الخدمات الكبيرة عندما تقتضي مصالحها وسياساتها ذلك، فهي تخلت عن شاه إيران ورفضت استقباله عندما أسقطت ثورة الشعب الإيراني نظامه التابع لأميركا، وواشنطن تخلت عن الأكراد في العراق في أكثر من محطة وتركتهم يدفعون ثمن رهاناتهم على الدعم الأميركي، واليوم على الأحزاب الكردية في شمال سورية أخذ الدروس والعبر قبل فوات الأوان لا سيما أنّ مساومة الأميركي عليهم قد بدأت مع الحليف الاستراتيجي التركي في منبج وقبل ذلك في عفرين، وما حصل مع الجماعات الإرهابية التابعة لأميركا في جنوب سورية سوف يتكرّر في الشمال إنْ لم يستفيدوا من كلّ هذه الدروس والعبر ويتوقفوا عن مواصلة المراهنة والاعتماد على الدعم الأميركي ضدّ دولتهم الوطنية السورية، التي لم تتخلّ عنهم طوال سنوات الحرب وظلت ولا زالت تفتح أبوابها لعودة مواطنيها إلى كنفها