أن يسعى رئيس ​الحكومة​ المكلف ​سعد الحريري​ لجمع أكبر نسبة "دعم" له من داخل طائفته، في وجه التعقيدات التي يواجهها في تأليف الحكومة، وقبل ذلك محاولات التشويش عليه، فأمرٌ طبيعيّ ومنطقيّ. وأن يكون رئيسا الحكومة السابقان ​تمام سلام​ و​فؤاد السنيورة​ في مقدّمة "المتضامنين" مع رئيس الحكومة المكلف، وهما اللذان شكلا في مرحلة من المراحل "وكيلين" للحريري، فأمرٌ بديهيّ أيضاً لا يخرج عن دائرة التوقعات.

وحده، رئيس الحكومة الأسبق ​نجيب ميقاتي​ شكّل، من حيث الشكل قبل المضمون، "المفاجأة". فالرجل، الذي قد يكون من أقوى الأركان المفترضين لما يمكن تسميتها بـ"المعارضة السنيّة"، إذا جاز التعبير، ارتأى أن يكون جزءاً من "درع الحماية" للحريري، ما يطرح أكثر من علامة استفهام، فأيّ مكاسب حققها أو يمكن أن يحققها ميقاتي من اللقاء؟ وما مصير "المعارضة السنية" وسط كلّ هذه المعمعة؟.

تحييد ووسطية

بقدر ما يمكن أن يكون حضور ميقاتي في لقاء دعم وتضامن مع الحريري، وهو خصمٌ مباشرٌ له، مستغرباً في الشكل، بقدر ما يبدو طبيعياً في المضمون، الذي يفيد ميقاتي على أكثر من صعيد وأكثر من مستوى.

فعلى الصعيد الشخصي أولاً، لا شكّ أنّ هذا اللقاء يساعد ميقاتي في مسعاه غير الخافي على أحد، لـ"تحييد" نفسه عن معارضي الحريري الآخرين، المنخرطين في كتلٍ سياسية واضحة الانتماءات، بل إنّ أغلبهم ينتمون أصلاً إلى كتلٍ تابعة لأحزاب وقوى معروفة التوجّهات، وهو ما يخالف واقعه، وهو الذي يعتبر أنّ له حيثيّة بل زعامة خاصة أثبتتها الانتخابات النيابية في طرابلس، وهو الذي رفض أن يكون "ملحقاً" بأيّ من الأحزاب أو القوى التقليدية، وشكّل كتلته الخاصة وغير المستعارة. وتماماً كما تغيّب الرجل عن اللقاء الذي حصل أخيراً لعدد من النواب السنّة من خارج عباءة "​تيار المستقبل​"، بهدف تثبيت نفسه "شخصية وسطية" غير محسوبة لا على هذا الفريق ولا على ذاك، فإنّه شارك في لقاء بيت الوسط للأهداف والغايات نفسها، علماً أنّه سعى من خلال اللقاء إلى تجديد "حرصه على حقوق الطائفة السنية"، وفق ما يردّد ويكرّر باستمرار.

ولا شكّ أنّ ميقاتي يخفي وراء كلّ ذلك طموحاً مشروعاً للعودة إلى نادي رؤساء الحكومات مستقبلاً، ولذلك الأمر متطلباته، وأهمّها البقاء على مسافة واحدة من الجميع وعدم الانخراط في اصطفافاتٍ من شأنها التشويش عليه، والأهمّ من ذلك، عدم معاداته للبيئة السنية التي ينطلق منها، خصوصاً في ضوء اعتقاده أنّ لكلّ مرحلة ظروفها ومقوّماتها. وبالتالي يمكن القول إنّ مشاركته في اللقاء جاءت منسجمة مع هذا الهدف، خصوصاً بعدما أخذ بعداً طائفياً بشكلٍ أو بآخر، في مواجهة التعقيدات التي يصطدم بها رئيس الحكومة المكلف، من خلال تأكيد التمسّك باتفاق الطائف والصلاحيات الممنوحة بموجبه لرئيس الحكومة، الذي لا يمكن محاصرته في تأليف الحكومة، بل إنّ الاتفاق المذكور لم ينصّ على أيّ مهلةٍ محدّدةٍ تقيّده في عملية تأليف الحكومة، ولو بقي في مهمّته أشهراً طويلة.

الطريق مقطوعة؟

وإذا كان لميقاتي انطلاقاً من ذلك مبرّرات للمشاركة في اللقاء، سواء جنى "ثمرة" نتيجة لذلك حكومياً، مع ملاحظة "تعمّد" كتلته استباق اللقاء بتجديد مطالبتها بتمثيلها في الحكومة المقبلة، أو اكتفى بتثبيت نفسه "وسطياً مستقلاً غير محسوب على أحد"، فإنّ ثمّة في المقابل من يقول إنّ الحريري حقق "ضربة معلم" بمجرد إشراكه ميقاتي في اللقاء.

ولعلّ أهم "المكاسب" التي حققها رئيس الحكومة المكلف تتمثل في قطع الطريق على "المعارضة السنيّة"، وهي تسمية يرفضها الحريري من الأساس، ويعمل على تحجيمها بشكلٍ أو بآخر. فعلى الرغم من أنّ ميقاتي وضع نفسه خارجها من الأصل، إلا أنّه أكثر من يعطيها "مشروعية" باعتبار أنّه يملك "حيثيّة" خاصة لا تقوم على "حيثيّة" آخرين يعتمد عليهم كواجهة. وفي هذا الإطار، توحي المعطيات أن الشخصيات المعارضة الأخرى بدأت تشعر برفع الغطاء عنها بشكلٍ أو بآخر، سواء من خلال إظهارها تارةً بأنّها عبارة عن مجموعة مستقلين لا يمكن أن يشكّلوا كتلة منسجمة ومتناغمة، أو من خلال القول بأنّها أصلاً لا تتمتّع بهامشٍ يعطيها الحقّ بالتمثيل، كون أغلب مكوّناتها أصلاً من المنخرطين في كتلٍ تابعة لأحزاب وقوى سياسية واضحة الانتماءات.

والأهمّ من كلّ ذلك، بعيداً عن العقدة الآنية، يمكن القول إنّ اللقاء أكد أنّ هؤلاء لا يمكن أن يكونوا "بدلاء" للحريري، خصوصاً في عهدٍ يصنّف نفسه "العهد القوي"، بل كرّس "زعامة" الحريري بوصفه "السنّي القوي" بمباركة من ميقاتي نفسه، إسوةً بكلّ من رئيس الجمهورية العماد ​ميشال عون​ مسيحياً، ورئيس المجلس النيابي ​نبيه بري​ شيعياً. ولعلّ توقيت اللقاء يسهم في الوصول إلى هذه الخلاصة، خصوصاً أنّه جاء بعد فتح "معركة الصلاحيات" على مصراعيها، سواء لجهة التغريدة "غير البريئة" التي خرج بها النائب اللواء جميل السيد الأسبوع الماضي، متوعّداً بـ"سحب التكليف" من الحريري، ومستقوياً بـ"الأكثرية" وقبل ذلك، بـ"البدلاء الجاهزين"، أو لجهة بيان الرئاسة الشديد اللهجة، الذي لم تبدُ أوساط الحريري مرحّبة بمضمونه، ولو آثرت عدم إظهار ذلك علناً.

الطائفية أولاً...

مع كلّ أزمة لتأليف الحكومة في ​لبنان​، تتكرّر "حرب الصلاحيات" نفسها، ومعها يعود اللبنانيون لسماع المعزوفة نفسها، عن حقوق الطوائف، ورفض المسّ بها، وغير ذلك. ولعلّ من الشواهد على ذلك، تكرار الحديث دوماً عن "المهلة المفتوحة" لرؤساء الحكومات، بوصفها "ثغرة" لا يسعى أحد أصلاً إلى سدّها بعد انتهاء "سكرة التأليف".

وإذا كان البعض يقول إنّ "حرب الصلاحيات" تتّخذ اليوم بعداً أكبر، مع دخول "الرئيس القوي" ميشال عون على الخط بكل قوة، بخلاف الرؤساء الذين سبقوه، فإنّ الأكيد أنّ لقاء رؤساء الحكومات السابقين، الذي جمع الحريري وميقاتي اللذين فرّقتهما السياسة حتى العظم، أكد مرّة أخرى أنّ "الطائفية" تبقى الرابح الأكبر في بلد "التنوّع" لبنان...