منذ خروج "​الكتائب اللبنانية​" من حكومة ​تمام سلام​، ورفضها ما عُرِض عليها للدخول إلى حكومة تصريف الأعمال الحالية، آثر الحزب بقيادة رئيسه النائب ​سامي الجميل​ أن يجلس في صفوف المعارضة، التي مارسها بجدارة حتى الرمق الانتخابي الأخير.

عارض الحزب كلّ شيء تقريباً في الآونة الأخيرة، في السياسة والاقتصاد والاجتماع، من تفاهم معراب بين "​التيار الوطني الحر​" و"​القوات اللبنانية​"، إلى التسوية الرئاسية التي أفضت إلى انتخاب العماد ​ميشال عون​ رئيساً للجمهورية، مروراً بالصفقات والسمسرات التي تصدّى لها، رافعاً الصوت ضدّ فساد الطبقة السياسية التي حيّد نفسه عنها.

اليوم، يبدو أنّ شيئاً ما تغيّر في سلوك الحزب، وكأنّ ​الانتخابات النيابية​ الأخيرة التي خيّبت أمل "الكتائبيين" وقلّصت حجم كتلتهم النيابية، شكّلت منعطفاً في مسارهم المعارِض، ما يطرح السؤال عن صحّة ما يُحكى عن استعداد "الكتائب" للدخول إلى الحكومة ولو بحقيبة دولة يتيمة، مع ما ينطوي عليه ذلك من "حنين" إلى "جنّة السلطة"...

وقائع ومؤشّرات

لا شكّ بدايةً أنّ "نَفَس" المعارضة لا يزال حاضراً بقوة ووضوح في "روح" قياديي حزب "الكتائب" وسلوكهم، حتى في عزّ المفاوضات الجارية حالياً لتأليف الحكومة، إذ لا يخلو أيّ من تصريحاتهم من "أدبيّات" المعارضة للنهج القائم والفساد المستشري، وبالتالي من دعوةٍ للتغيير وإرساء مقاربة جديدة لمختلف الأزمات المستفحلة في الوطن.

إلا أنّ هذا "النَّفَس" لا يغرّد وحيداً على ما يبدو، إذ إنّ سلسلة من الوقائع والمؤشرات التي تحيط به توحي أنّ الحزب بدأ يدرس خياراتٍ جديدة، مغايرة لتلك التي انتهجها في مرحلة ما قبل الانتخابات النيابية، بل إنّ مرحلة "التأمّل" التي عاشها منذ ما بعد هذه الانتخابات حتى اليوم بدت في مكانٍ ما تؤسّس لهذا "التغيير"، وتمهّد لما هو آتٍ.

ولعلّ "الشراكة مع العهد" ولو بصورةٍ غير مباشرة، تبدو خياراً مطروحاً على طاولة البحث "الكتائبية" اليوم بكلّ جدية، وهو ما أوحى به اللقاء الأخير الذي عقده وفد حزب "الكتائب" مع رئيس الجمهورية ميشال عون، خصوصاً في ضوء الكلام الذي خرج به النائب سامي الجميل بعد اللقاء، والذي تبنّى بعض شعارات "العهد" حتى في موضوع "​مرسوم التجنيس​"، الذي كان الجميل أول المبادرين أصلاً إلى رفع الصوت في وجهه، قبل أن يخفض السقف لدرجة أن يسبقه كلّ من "​الحزب التقدمي الاشتراكي​" و"القوات اللبنانية" إلى الطعن في المرسوم، فيما يفضّل هو "إثارة" الموضوع مع الرئيس وفق قاعدة أنّ الطعون غير مضمونة. ومع أنّ الجميل محقٌ على الأرجح في هذه المقاربة، باعتبار أنّ هناك وجهة نظر تقول بأنّ الطعون قد تُرَدّ شكلاً لكون مقدّميها ليسوا من المتضرّرين منها بصورة مباشرة، فإنّ تشديد الرجل على "صلاحيات رئيس الجمهورية" بدا أكثر من لافت، بل إنّ حديثه عن الحكومة اقتصر على نقل "انزعاج" الرئيس من الشروط التي توضَع لعرقلة عملية التأليف، كمن يشاطره الرأي ليس إلا.

وفي حين كان لافتاً على سبيل المثال، دخول الجمهور "الكتائبي" في صراع مع النائب ​بولا يعقوبيان​، التي قد تكون الوحيدة التي حجزت مكانها في المعارضة، على خلفية تحرّك الأخيرة في ملف النفايات، فإنّ "صمته" على تطورات الصراع بين "التيار الوطني الحر" و"القوات اللبنانية" بدا نافراً بالنسبة لكثيرين، حتى أنّ الجميل الذي كان من أعتى معارضي التفاهم يوم إبرامه، رفضاً لما قال إنّها محاولة لاحتكار الساحة المسيحيّة وإقصاء الأحزاب الأخرى، لم ينبس ببنت شفة تعليقاً على تكشّف بنود التفاهم، والتي أكّدت النهج الإلغائي الذي حذر منه، علماً أنّ الكثيرين ربطوا بين كلّ ذلك وما أثير عن "رسالةٍ" كان بعثها "الوطني الحر" من خلال الوزير السابق ​الياس بو صعب​ للنائب الجميل بأن يكون جزءاً من الكتلة الداعمة للعهد في الحكومة.

درس الانتخابات

بمُعزَلٍ عمّا إذا كان حزب "الكتائب" يدرس فعلاً الانضمام بشكلٍ أو بآخر إلى كتلة "العهد"، أو أنه يرغب بالانضمام من جديد إلى تحالف "​14 آذار​" الذي يقال إنّ البعض يسعى لإعادة إحيائه، خصوصاً مع عودة التواصل بين رئيس الحكومة المكلف ​سعد الحريري​ ورئيس حزب "القوات" ​سمير جعجع​ إلى بعضٍ من سابق عهده، أو أنّه لا يزال عملياً في مرحلة التأمّل، وبالتالي فإنّه يرجئ قراره ريثما تنضج مفاوضات تأليف الحكومة، ويظهر خيطها الأبيض من الأسود، يمكن القول إنّ سلوك "الكتائب" مرتبطٌ ارتباطاً مباشراً بدروس وعِبَر الانتخابات النيابية الأخيرة، التي دلّت على أنّ المعارضة، رغم كونها مربحة شعبياً، كانت "خياراً خاسراً" انتخابياً بالنسبة للحزب.

وفي هذا السياق، يعتقد البعض أنّ "العبرة" الأهمّ التي استخلصها "الكتائبيون" من الانتخابات هي أنّ "الشعبوية" لا تكفي وحدها لتحقيق الانتصارات، ولو حصدوا التصفيق من جماهير الجميع، الخصوم قبل الأصدقاء، على بعض الخطوات التي يقومون بها. ولعلّ هذا السبب بالتحديد هو الذي دفع حزب "الكتائب" يُقبِل على مفاوضات تأليف الحكومة بنَفَسٍ مختلفٍ كلياً عمّا كان ينادي به قبل الانتخابات، حين كان يتحدّث عن إطلاق معارضةٍ واسعةٍ وشاملة، فإذا به يوجّه الرسائل الإيجابية بالجملة، من تسمية الحريري رئيساً للحكومة، وصولاً إلى "الانفتاح" على الرئيس عون، بل يبعث بإشارات توحي بموافقته على الدخول إلى الحكومة، ولو بحقيبة دولة، أي بالعرض الذي يعرف القاصي والداني أنه كان سبب عدم دخوله في الحكومة السابقة.

إلا أنّ ذلك لا يعني تخلّي الحزب عن "براغماتيته" أو "مبدئيته" في مقاربة الأمور، التي يضعها في إطار "الثوابت" التي ينطلق منها في تحديد أيّ موقفٍ يفترض أن يتّخذه في المرحلة المقبلة، علماً أنّ القياديين "الكتائبيين" يؤكدون دائماً أنّ المشاركة في الحكومة ليست هدفاً بحدّ ذاته بالنسبة إليهم، وأنّها إن حصلت، يجب أن تأتي بما يصبّ في خدمة هذه "الثوابت" التي تمثّل السياسة العامة للحزب، وليس "التعارض" معها، بمعنى أنّ الحزب، وإن كان متشوّقاً للعودة إلى "جنّة السلطة"، فهو لن يفرّط بما حقّقه من مكاسب خلال وجوده في ما كان يعتقد أنّها "جنّة المعارضة"، والتي تجلت مثلاً بنسبة الأصوات التفضيلية التي حصدها النائب سامي الجميل في المتن، والتي أعطته "زعامة" عوّضت عليه "الإخفاق" في مناطق أخرى.

أين الثوابت؟

لا ثوابت في السياسة. هي قاعدة لا يمكن لأحد نكرانها. على العكس من ذلك، السياسة لعبة مصالح أولاً وأخيراً، وهذا ما يجعل "الانقلابات السياسية" أمراً واقعياً تقتضيه الظروف، ليصبح التنقل بين الموالاة والمعارضة أمراً بديهياً وفقاً للمصالح أولاً وأخيراً.

اتفق "التيار" و"القوات"، فكان تفاهمهما الشهير الذي يكاد يصبح "في خبر كان". "الكتائب" كانت أشدّ المعارضين لكليهما ولتفاهمهما، فيما لا تمانع اليوم الالتحاق بهما أو بأحدهما لتعويض ما فات. وبين الإثنين، يبقى السؤال الأكبر، هل تطير الثوابت كرمى لعيون الحكم، وما أدراك ما الحكم؟!.