لم يعد ​لبنان​ يحتمل مماطلة في تأليف الحكومة الجديدة. كل المؤشرات توحي بأن البلد دخل في الأزمة المالية-الإقتصادية التي إستدعت إستنفار المصارف، فرفع بعضها معدل الفائدة الى حدود 15%، من اجل منع سحب الأرصدة. هي حالة إستثنائية صعبة يمر بها لبنان، لكنها لم تصل بعد، الى مرحلة شبيهة بالأشهر التي تلت إغتيال الرئيس الشهيد ​رفيق الحريري​ عام 2005. يومها سحب كبار المتمولّين اموالهم من المصارف اللبنانية، وكاد البلد يذهب نحو الإنهيار المالي، لكن تأليف حكومة جديدة آنذاك، برئاسة ​نجيب ميقاتي​، وتحضير ​الانتخابات النيابية​ أنقذا لبنان من كارثة. الآن، يتجه المشهد نحو تكرار السيناريو المالي نفسه، في حال لم تولد الحكومة خلال وقت قريب. الفارق بين 2005 والعام الحالي ان الدول الكبرى وقفت الى جانب لبنان يومها، بينما لا تكترث العواصم الآن بالوضع اللبناني. لا بل أن سفير دولة عربية في بيروت قال كلاماً مؤذياً: سيبقى العهد عهد تصريف أعمال. أما الدول الغربية فتتصرف على أساس: ما دام اللبنانيون لا يتعاطون بروح المسؤولية تجاه بلدهم، لن نقدم على أي خطوة لمعالجة أزمتهم.

في التفاصيل الداخلية، المفروض أن لعبة عض الأصابع انتهت. الكل خسر بشكل دراماتيكي، الى مستوى ملامسة "التآكل" السياسي، وخصوصا العهد الذي وضعته مطبات التأليف الحكومي على المحك، كما أظهر السجال بين "​التيار الوطني الحر​" و "القوات". إستطاع "الحكيم" أن يسجّل نقطة في مرمى "الوطني الحر"، بعدما بيّن للجمهور المسيحي أن رئيس التيار وزير الخارجية في حكومة تصريف الأعمال ​جبران باسيل​ تنصّل من الإلتزامات الواردة في إتفاق معراب. حنكة رئيس القوات ​سمير جعجع​ قادته الى كشف خبايا الإتفاق لحشر باسيل، ثم التمسك بعدها بإتفاق معراب، لإظهار أولويته في المصالحة لا الخصام والسجال. هناك من يعتبر أن جعجع يناور، "لو كانت رغبته بالحفاظ على الإتفاق، لما قام بنشره". لكنه يعرف ان باسيل يفاوضه ضمنيا، لا على حصته في الحكومة، بل على طريقة عمل وزرائه في مجلس الوزراء، كي لا يستهدفوا المشاريع البرتقالية، كما حصل إزاء خطة الكهرباء التي طرحها وزير التيار سيزار أبي خليل.

ماذا بعد؟ كل الأوراق إستُخدمت. التفاوض مفتوح. السيناريوهات تقابل العناد عند الطرفين المسيحيين-أساس العقدة الحكومية. لكن "الوطني الحر" صوّب ايضاً على رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري في الأيام القليلة الماضية، لدفع "الشيخ سعد" الى التنازل من حصته لمصلحة "القوات"، لا أن يكون التنازل عونيّاً. الضغوط البرتقالية وصلت الى حد طرح اعادة الاستشارات النيابية لتكليف جديد. يعرف البرتقاليون أن الفكرة غير قابلة للتنفيذ، لا من خلال رسالة يوجهها رئيس الجمهورية ​ميشال عون​ الى المجلس النيابي، ولا من خلال تقديم دراسة دستورية تفيد بإمكانية طي صفحة التكليف الحالي وفتح صفحة جديدة. سيجري إعتبار الطرح تعدياً على "الطائف"، وعلى حقوق الطائفة الاسلامية السنّية. من شأن ذلك زيادة التصادم الداخلي، ودفع البلد الى الحديث عن إستهداف التوازن الطوائفي، وضرب النظام القائم. وكأننا حينها ندخل في مسار مجهول، عبر تراكم الملفات السياسية الصعبة، وغياب المبادرات والحلول.

حتى اللحظة، خسر العهد بعضاً من رصيده، وأظهر الفريقان المسيحيّان عجزاً عن ملامسة المصلحة العامة، فكل التنافس يصبّ في إطار المحاصصة وتوزيع المغانم السلطوية، كما اظهرت بنود إتفاق معراب. لكن بالمقابل، خسر "الوطني الحر" حليفاَ أساسياَ في السلطة هو "المستقبل"، الذي مال مجدداً نحو معراب، فكسب "الحكيم" حليفه "الأزرق" القديم، الذي سحبه بمساعدة الرياض، من أحضان "البرتقالي".

ضمن تلك الحسابات، وفي حال إستندنا الى معادلة ان الحريري في السراي الحكومي، سواء بمرحلة التصريف او التكليف أو التأليف أو الأصالة، وهو يدير الحكومة والوزارات والمؤسسات التنفيذية التابعة لها. يعني ان خسارته محدودة. هنا يبدو الخاسر الأكبر من عدم تأليف الحكومة هو العهد، الذي تهتز صورته، بعدما وعد اللبنانيين بحكومة العهد بعد الانتخابات النيابية. تلك الخسارة تزيد من إرباكاتها، الاوضاع المالية والاقتصادية الصعبة، التي لا يتحمل العهد مسؤولياتها، لكن التاريخ سيذكر انه في عهد رئيس الجمهورية ميشال عون، وقعت كارثة مالية-إقتصادية، أو سيدوّن التاريخ نفسه، أنه في عهد عون، جرى رسم خطة أنقذت البلد من الإنهيار الحتمي. أيهما سيختار، كي يسجّل التاريخ؟.