خلال الأسبوع الماضي، عقد رئيس الجمهورية ​ميشال عون​ لقاءات قيل إنّ هدفها تكريس التهدئة بين مختلف الأفرقاء، منعاً للتشويش على عملية تأليف الحكومة، كان أبرزها اللقاءان اللذان احتضنهما مع كلّ من رئيس حزب "القوات اللبنانية" ​سمير جعجع​ ورئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" النائب السابق ​وليد جنبلاط​.

وإذا كان أصبح معروفاً أنّ "الهدنة" التي اتفق عليها مع الأول لم تصمد طويلاً، على الرغم من "تبشير" جعجع بعد اللقاء بنتائج إيجابية أكثر ممّا يمكن أن يتصوّر المرء، بل إنّ الأمور سرعان ما تفجّرت بين الجانبين، فإنّ الوضع مع جنبلاط لم يكن أفضل حالاً، وما "حرب التغريدات" المتجدّدة التي شهدتها جبهة "الاشتراكي–الوطني الحر" خلال الساعات الماضية سوى خير دليل على ذلك.

إزاء ذلك، يُطرَح السؤال، من يتحمّل مسؤولية عدم نجاح المبادرة الرئاسية في ترطيب الأجواء؟ ولماذا انتهى "مفعول" لقاءات بعبدا قبل أن يبدأ، إن جاز التعبير؟!.

أكثر ممّا تُحتَمَل؟!

بـ "ضربة معلم"، وُصِفت المبادرة الرئاسية التي انطلق منها رئيس الجمهورية العماد ميشال عون لدعوة كلّ من جعجع وجنبلاط إلى ​قصر بعبدا​، بعد مرحلة من التشنّجات والتوترات بين حزبي الرجلين و"​التيار الوطني الحر​"، ومن خلفه "العهد" بصورةٍ أو بأخرى، تشنّجاتٌ فاقمت من حدّة أزمة تأليف الحكومة، في ضوء ما بات يُعرَف بـ"العقدة ​المسيحية​" المرتبطة بحصّة "القوات" مقارنةً بـ"التيار"، و"العقدة الدرزية" المرتبطة بمطالبة "الاشتراكي" بحصّة الوزراء الدروز كاملةً في الحكومة.

إلا أنّ نتائج هذه المبادرة لم تبدُ "ضربة معلم" على الإطلاق، إذا ما استثنينا التصريحات الآنية التي خرج بها الرجلان بعد لقائهما عون، والتي انطوت على إيجابيّات لم يكن من السهل ترجمتها على أرض الواقع. فرئيس حزب "القوات اللبنانية" مثلاً خرج من اللقاء مبشّراً بالفرج الآتي، وموحياً بأنّ نتائج اللقاء الذي لم يستغرق وقتاً طويلاً ستكون أكثر من أن تُعَدّ وتُحصى. أما جنبلاط، فعلى الرغم من عدم تراجعه عن انتقاداته السابقة للعهد وتوصيفه له بالفاشل، فبدا ذاهباً بثبات نحو "تهدئة" مع أركان العهد، خصوصاً بدعوته أنصاره إلى تخفيف حدّة اللهجة، لا سيما عبر وسائل التواصل، في رسالةٍ اعتبر كثيرون أنّها ذاتية قبل أن تكون موجّهة للآخرين.

وبعيداً عن هذه الإيجابيات المحدودة، لم تؤدّ لقاءات بعبدا الاستثنائية إلى أيّ تغييرٍ ملموس على الأرض. بقيت العقدتان المسيحية والدرزية على حالهما، بل إنّ "الهدنة" التي قيل إنّ لقاءات بعبدا أرستها، سواء على جبهة "التيار–القوات" أو "التيار–الاشتراكي" لم تصمد، إذ سرعان ما تدهورت العلاقات بين الثنائي المسيحي لدرجة كاد طرفاه ينعيان تفاهمهما الشهير، فيما عاد "العونيون" و"الاشتراكيون" إلى حفلات الردود والردود المضادة، على خلفية انتقاد العهد نفسه، ولا سيما لجهة الأزمة الاقتصادية، فضلاً عن مقاربة ملف النازحين.

عموماً، يرى كثيرون أنّ المشكلة لا تكمن في لقاءات بعبدا بحدّ ذاتها، بل في كونها حُمّلت أكثر بكثير ممّا تحتمل، خصوصاً في ضوء الرهانات الكثيرة التي وضعها البعض بأنّها يمكن أن تؤدي إلى حلّ الأزمات الحكومية المستفحلة، خصوصاً تلك المرتبطة بجعجع وجنبلاط، في حين أنّ الرئيس لم يُرِد منها سوى تهدئة الأجواء وتخفيف الاحتقان بما يسهّل على المعنيّين بعملية تأليف الحكومة إنجاز مهمّتهم بسهولةٍ ويسر أكبر. ولعلّ خير دليل على ذلك التسريبات التي أكدت أنّ الملف الحكومي لم يُطرَح في اللقاءين، سوى من باب "العموميات"، ما يعني أنّ عون ترك مسألة التفاوض السياسي إلى قيادة "التيار الوطني الحر" ممثَّلةً بوزير الخارجيّة في حكومة تصريف الأعمال ​جبران باسيل​، ما ترك الأمور في المربع الأول.

مسؤولية متبادلة

انطلاقاً ممّا سبق، يمكن القول إنّ لقاءات بعبدا لم تكن تهدف إلى حلّ الأزمة الحكومية، على اعتبار أنّ رئيس الجمهورية لا يعتبر أنّ الكرة في ملعبه، بل هي في ملعب رئيس الحكومة المكلف ​سعد الحريري​ ومعه القوى والأحزاب السياسية، فضلاً عن أنه يفصل بين كونه رئيساً للجمهورية، وبالتالي لكلّ اللبنانيين، وبين موقعه السابق كمؤسّس لـ"التيار الوطني الحر" ورئيس له، ما يحتّم أن يكون التفاوض السياسي المرتبط بحصة "التيار" أو غيره في ملعب قيادة الأخير، وتحديداً الوزير باسيل.

ولكن، حتى في هذه الحال، لا بدّ من الإقرار بأنّ اللقاءات لم تحقّق الهدف المأمول منها، من حيث تكريس جو التهدئة السياسية بعيداً عن الخلافات الدونكيشوتية التي شوّشت على تأليف الحكومة، بدليل أنّ التهدئة لم تصمد، وأنّ الأمور لا تزال على ما كانت عليه في اليوم الأول. وفي هذا السياق، يحمّل كثيرون "التيار الوطني الحر" مسؤولية إفشال المساعي الرئاسية، رغم أنّه يفترض أن يكون أكثر الحريصين على نجاحها بالنظر إلى علاقته بالرئيس عون. ويستند هؤلاء تحديداً إلى المقابلة الصحافية الأخيرة للوزير باسيل التي صوّب فيها مباشرة على جنبلاط وجعجع وغيرهما، محدّداً أسساً وثوابت لأيّ تفاوض أفرغته سلفاً من مضمونه.

لكن، في مقابل هذه القراءة، ثمّة قراءة أخرى تحمّل الأطراف الآخرين مسؤولية تدهور الأمور مجدّداً، بما أفشل المبادرة الرئاسية، أو جمّدها، على اعتبار أنّ هناك جهوداً تُبذَل لإعادة بثّ الروح فيها. وتنطلق هذه القراءة من أنّ جعجع وجنبلاط وغيرهما ممّن يمكن تصنيفهم في إطار "خصوم العهد"، لم يُظهروا أيّ "حسن نيّة" تجاوباً مع مبادرة الرئيس، بل مضوا في تعنّتهم وتمسّكهم بمواقفهم ومطالبهم السابقة، من دون إبراز أي استعداد لأيّ تنازل أو تضحية، أو حتى للانخراط في مفاوضاتٍ جدية. ومن هذه الزاوية، كان من الطبيعي أن يُقرَأ ذهاب "القوات" إلى كشف المستور من اتفاق معراب سلباً، تماماً كإصرار جنبلاط على مواقفه السابقة من العهد، بل عودته إلى "الاستفزاز"، وهو يدرك سلفاً تداعياته المحتملة.

عقلية فوقية؟!

لا شكّ أنّ محاولة ​رئاسة الجمهورية​ تكريس التهدئة والهدنة على الساحة السياسية، وبالتالي تخفيف الاحتقان، هي مبادرة إيجابية، يفترض أن يكون لها الصدى الواسع في المطلق.

بيد أنّ ما لا شكّ فيه أيضاً أنّ مرحلة تأليف الحكومة هي المرحلة التي يسعى فيها جميع الأطراف إلى رفع الأسقف إلى المستوى الأعلى، طمعاً بتحقيق المكاسب الحكومية الأكبر، وهو ما لا يتناسب إطلاقاً مع أيّ تهدئة لا تبدو الأجواء مؤاتية لها.

وبين هذا وذاك، يبقى على الجميع الإدراك أنّ الحكومة المسمّاة حكومة وفاق وطني لا يمكن أن تبصر النور في ظلّ هذا التعنّت والعناد، والمطلوب الذهاب إلى مفاوضات بعقلية مرنة تشاركية ومستعدّة للتنازل، لا بعقليّة فوقيّة استقوائيّة وإلغائية تقوم على قاعدة، إما يتحقق ما أريده أو لا حكومة، كما هي حال جميع الأفرقاء اليوم.