كما درجت العادة كلما تأخّر تأليف حكومة في لبنان، وكلما حصل أيّ تأخير أو أيّ عرقلة في أيّ استحقاق، يبدأ الحديث عن "كلمة سر" خارجية ينتظرها الفرقاء، من هذه الدولة الإقليمية أو تلك، لتُشكَّل الحكومة بعدها بسرعة البرق، وفي غضون ساعاتٍ معدودة.

ومع أنّ للبنان تجارب عديدة في التاريخ القديم كما الحديث تؤكد مثل هذه النظرية، فإنّ المفارقة تبرز من خلال الاختلاف حول "مصدر" كلمة السرّ المنتظرة، بين من يقول إنّ ​السعودية​ تضغط على حلفائها لرفع سقف مطالبهم الحكومية، ومن يعتبر أنّ إيران هي التي تضغط لكونها تريد ترجمة ما تعتبره "انتصاراً" لمحورها في ​الانتخابات النيابية​ الأخيرة حكومياً.

إزاء كلّ ذلك، هل يمكن القول إنّ الحكومة باتت فعلاً مرهونة بالخارج؟ ألا يُعتبَر ذلك، بمعزلٍ عن الشكل والنوع، إضعافاً للعهد، الذي اعتبر أنّ من عناصر قوته عزل الاستحقاقات الداخلية عن الخارج بالمُطلَق؟!.

صراع إقليمي مستفحل

بدايةً، لا شكّ أنّ الحديث عن صراعات إقليمية تترجم على الساحة اللبنانية، خصوصاً في ضوء الصراع السعودي الإيراني المستفحل في مختلف ساحات المنطقة، ليس جديداً، بل إنّ كثيرين يحلو لهم "تبريره" على اعتبار أنّ لبنان ليس جزيرة معزولة، وأنّ تركيبته الطائفية والمناطقية تعزّز مثل هذا الحضور لكلّ من الدولتين الإقليميتين المذكورتين، وبالتالي ليس مستغرباً سعي كلّ من الفريقين لكسب نقاط قوة من خلال الحكومة المنتظرة، وهو ما يتجلى بما يُحكى عن ضغوط من هذا الجانب أو ذاك على "حلفائه" أو "أصدقائه" في لبنان.

وفي هذا السياق، لا يتردّد البعض في وضع "كلمة السر" الحكومية في يد القيادة السعودية، ليس فقط لكون رئيس الحكومة المكلف ​سعد الحريري​ محسوباً مباشرةً عليها، على الرغم ممّا أثير في الآونة الأخيرة عن تراجع العلاقات بينهما، خصوصاً بعد ما أحاط باستقالته الشهيرة من غموض والتباس، ولكن قبل ذلك نظراً لارتباط "أصدقائها" في لبنان الوثيق بالعقد الحكوميّة المستفحلة. ولذلك، يعتبر البعض أنّ السعودية تضغط على حليفيها الأساسيّين، رئيس حزب "القوات اللبنانية" ​سمير جعجع​ ورئيس "​الحزب التقدمي الاشتراكي​" ​وليد جنبلاط​، لرفع سقف مطالبهما، وعدم القبول بأيّ "حلول وسط" تُعرَض عليهما، وهو ما يترجَم بإصرار كلّ منهما على رفض أيّ "مفاوضات" في شأن مطالبهم، وتبنّي الحريري لها، ما يخفي وراءه نيّة بحصولهم مع رئيس الحكومة على "الثلث الضامن" في الحكومة، علماً أنّ كثيرين يربطون بين زيارة جنبلاط إلى السعودية وإطلاقه النار بشكل مباشر وشرس على العهد بعدها مباشرةً، ليؤكدوا مثل هذا الربط.

في المقابل، لا تبدو إيران "بريئة" هي الأخرى من الحضور على الضفة الحكومية، بل يعتبر البعض أنّها عملياً من تضغط لعدم القبول بالحدّ الأدنى من مطالب جعجع وجنبلاط وغيرهما، وذلك رغبةً منها بترجمة "الانتصار" الذي تحقق في الانتخابات حكومياً، وهو ما يعكسه بشكل واضح التصريح الشهير لقائد "فیلق القدس" التابع للحرس الثوري، اللواء ​قاسم سليماني​، الذي قال فيه إن الانتخابات التي أجريت في لبنان أخيراً تمثل انتصاراً كبيراً لـ"حزب الله" الذي تحول من حزب مقاوم إلى حكومة مقاومة بعدما حصل لأول مرة على 74 مقعداً من أصل 128 مقعداً في البرلمان. ويعتبر أصحاب هذا الرأي أن اكتفاء المحسوبين على إيران، وخصوصاً الثنائي الشيعي، بالتفرّج، من دون التدخل لدى حلفائهما على جري العادة لتقديم التنازلات وتسهيل التأليف، دليلٌ على وجود مثل هذا التوجه، علماً أنّ ثمة من يربط العقدة السنية أيضاً بكلّ ما يحصل، وذلك في محاولةٍ لتطويق الحريري من خلال الإصرار على إشراك معارضيه المباشرين على طاولة الحكومة التي يرأسها.

إضعاف للعهد؟

عموماً، وبمُعزَلٍ عن التنظير بوجود عقدة خارجية أم لا، يرى كثيرون أنّ المشكلة الأساسية تبقى مرهونة في الداخل، لأنّه إن كان من تدخل خارجي، فإنّ أفرقاء الداخل هم الذين يستدعونه، بإصرارهم على عدم حلّ مشاكلهم بأنفسهم، ولا حتى على الدخول بحوار جدّي من دون رعاية إقليمية. وبالتالي، فإنّ المطلوب برأي هؤلاء أن يعمد أفرقاء الداخل للاتفاق أولاً على "قواسم مشتركة" لحلّ العقد الداخلية التي تحول دون تأليف الحكومة، وهي ليست بقليلة، قبل التنظير بأنّ الخارج هو من الذي يعرقل، علماً أنّ الخارج متى تدخّل للحل، سيصبحون تلقائياً، وكرمى لعيونه، جاهزين للتفاوض ولتقديم التنازلات، تماماً كما حصل مثلاً في ​اتفاق الدوحة​ الشهير، الذي تلا أحداث السابع من أيار، وسبق انتخاب العماد ​ميشال سليمان​ رئيساً للجمهورية.

أكثر من ذلك، فإنّ ثمّة قناعة بأنّ الركون لمنطق "التدخل الخارجي" هو بمثابة إضعافٍ للعهد بل تطويق مباشر وغير بريء له، وهو ما يؤكده المحسوبون عليه، الذين بدأوا يتحدّثون خلال الأيام الماضية عن استهدافٍ للعهد شبيه بذلك الذي حصل في مرحلة استقالة الحريري الملتبسة من رئاسة الحكومة السابقة، بل يمهّدون لخطواتٍ "نوعية" قد يقدم عليها ​الرئيس ميشال عون​ لمواجهة هذا الاستهداف من الناحية العملية. وإذا كان صحيحاً أنّ العهد لا يمكن أن يظهر في ضوء هذه التجاذبات الإقليمية "قوياً" كما يسعى، ثمّة من يرمي الكرة في ملعبه أصلاً، باعتبار أنّه قادر على إظهار بعض الليونة والمرونة في التفاوض مع باقي الأفرقاء السياسيين، بدل الحكم سلفاً على أيّ صيغةٍ حكوميةٍ ينوي الحريري تقديمها بأنّها لن تمرّ، علماً أنّ العقدة الأساسية في رأي كثيرين لا تكمن فقط في أنّ فريق رئيس الجمهورية يرفض إعطاء الفريق الآخر الثلث الذي يصفه بالمعطّل في الحكومة فحسب، بل في كونه يسعى إلى الاستئثار، وحيداً من دون حلفائه وأصدقائه حتى، بالثلث الذي يصفه في هذه الحال بالضامن، وهو ما يعتبره خصومه خطاً أحمر لا يجوز قبوله.

المتضرّر الأول

بالتأكيد، لا يمكن القول ان لا عقدة خارجية بالمطلق تحول دون تأليف الحكومة، خصوصاً أنّ طبيعة التركيبة السياسية اللبنانية، ولا سيما في ما يتعلق بالقوى النافذة، تجعلها مرتبطة مباشرةً بمحاور خارجية وإقليمية أساسيّة، وبالتالي فإنّ هذا الخارج حاضرٌ في اليوميّات السياسية اللبنانية، شاء من شاء وأبى من أبى.

ولكنّ الأكيد أيضاً، أنّ رمي كرة التعطيل الحكوميّ في ملعب الخارج فقط لا يدلّ على قصر نظر فحسب، بل يعبّر عن سلوك القوى السياسية الطريق الأسهل والأيسر كالعادة، بتحميل مسؤولية إخفاقهم للخارج، ما يعني بشكلٍ أو بآخر استدعاءه للتدخل أصلاً إن لم يفعل من تلقاء نفسه، على اعتبار أنّهم عاجزون عن حلّ أزماتهم بمفردهم، ولا بدّ من يدٍ سحرية، خارجية بطبيعة الحال، لإسعافهم.

وبين هذا وذاك، يبقى "العهد القوي" هو المتضرّر الأول، فلا طريقة تأليف الحكومة القائمة على المحاصصات والغنائم تغيّرت في ظلّه، ولا الاستقواء بالخارج والركون إليه، وهنا الطامة الكبرى بطبيعة الحال...