لم يعد ملف الحرب السورية محطّ أنظار العالم ولا محلّ مُتابعة من قبل وسائل الإعلام، الأمر الذي جعل التحولات الكبرى الحاصلة هناك تمرّ بهدوء ومن دون أي ضجيج. فما هو جديد الحرب في ​سوريا​، وما هي التداعيات على مُستقبل المنطقة؟.

بإختصار شديد، يُمكن القول إنّ النظام السُوري يواصل حِصاد ما زرعته القوى الحليفة له، وجديد هذا الحصاد إستعادة الجيش السُوري سيطرته على الجنوب السوري، حيث جرى التوافق بين مُمثّلين عن ​روسيا​ وآخرين عن الفصائل المُسلّحة المُعارضة للرئيس السوري بشّار الأسد، بإنسحاب القوى "المُعارضة" إلى الشمال السُوري، وبإستعادة الجيش السُوري لمختلف المواقع والمراكز التي كان فيها في العام 2011 في مُحافظة القنيطرة. وهذا يعني أنّ ​الجيش السوري​ الذي كان قد تمكّن أخيرًا بدعم جويّ روسي كبير من إستعادة نحو 90 % من مُحافظة درعا المُحاذية لمحافظة القنيطرة، سيعود إلى مُحاذاة المنطقة العازلة في هضبة الجولان التي تقع في جنوب غرب سوريا، ليصبح من جديد بمواجهة ​الجيش الإسرائيلي​ الذي يحتلّ جزءًا من الجولان. وبالتالي، "السيناريو" الذي حصل في درعا قبل أسابيع، لجهة مُمارسة ضغط عسكري كبير قبل الإتفاق على نقل المُسلّحين المُعارضين إلى مُحافظة إدلب، يتكرّر حرفيًا في مُحافظة القنيطرة اليوم.

وبالنسبة إلى تداعيات ما يحصل حاليًا، يبدو أنّ الإدارة الأميركيّة بقيادة الرئيس ​دونالد ترامب​ "تبيع" في سوريا و"تشتري" من روسيا في مناطق أخرى من العالم-إذا جاز التعبير. فالنفوذ السياسي الكبير لروسيا في سوريا لم يعد له مثيل، وهو ليس ناجمًا من الموقف السياسي الحازم للقيادة الروسيّة، ولا من التدخّل العسكري الروسي المباشر في الحرب فحسب، إنّما أيضًا من تنازلات كبيرة قدّمتها واشنطن لصالح موسكو في الملف السوري، للحُصول على مكاسب تحتاجها أميركا في ملفّات أخرى، في أوروبا وخُصوصًا في آسيا، بالتزامن مع إنشغال دول إقليميّة وعربيّة كانت تدعم "المُعارضة" بمشاكل أخرى وإنصرافها عن الوضع السُوري. وهذا كلّه أسفر عن إطلاق يد روسيا في أي حلّ سياسي مُحتمل في المُستقبل القريب، بعد أنّ إنقلبت التوازنات العسكرية الميدانية بشكل كبير لصالح التحالف الثلاثي بين سوريا وروسيا وإيران، بحيث لم يعد من وجود فعلي لفصائل مُعارضة قادرة على القتال سوى في محافظة إدلب التي كانت قد خرجت بشكل كامل عن سيطرة الجيش السوري في آذار من العام 2015.

وبالتالي، من دون أي غطاء دَولي، وحتى من دون أي دعم إقليمي يُذكر، لم تعد الجماعات المُسلحة المناهضة للنظام السُوري قادرة على فرض أي من الشروط التي كانت تُطالب بها للموافقة على التسوية السياسيّة المُرتقبة. ومن المُنتظر أن يتواصل نقل مُسلّحي "المُعارضة" السوريّة إلى إدلب، في ظلّ تقارير لا تستبعد أن يتم اللجوء إلى القُوّة مرّة جديدة لضرب آخر معاقل المُعارضة في مرحلة لاحقة، كما حصل في جيوب أخرى ومنها الجنوب السُوري مثلاً، لجهة عدم إحترام تعهّدات وقف النار. ففي الحروب التي تتدخّل فيها العديد من الدول والجماعات المُسلّحة، لا يكون ميزان القوى العسكري على الأرض هو العامل الحاسم الوحيد، إنّما الدعم الإقليمي والغطاء الدولي أيضًا. وبإعتراف القوى الحليفة وغير الحليفة لروسيا، تمكّنت موسكو من تغيير المُعادلة العسكريّة بشكل جذري في سوريا، وهي أعادت تثبيت النظام بعد أن كان على وشك السُقوط، وذلك بأقلّ كلفة بشريّة مُمكنة، مُكتفيّة بشنّ الغارات العنيفة من الجوّ وبممارسة الضُغوط السياسيّة، وتاركة "ضريبة الدم" لقوى أخرى، منها "​حزب الله​" اللبناني، ومنها فصائل شيعية أخرى مُموّلة ومُسلّحة ومُدربة من جانب إيران.

ومع إستمرارعمليّات تبادل إجلاء المُسلّحين، وآخرها خطوة نقل المُقاتلين الشيعة الذين كانوا مُحاصرين في كل من قريتي كفريا والفوعة في إدلب، يكون الفرز المذهبي لسوريا الجديدة قد تكرّس تمامًا في العديد من المناطق السورية. ومن شأن هذا الأمر أن يُسهّل التوصّل إلى التسوية النهائية التي من المُرجّح أن تعود إلى الواجهة في المرحلة المُقبلة بعد التطوّرات الميدانية الكبرى التي حصلت، مع توقّع أن تصبّ أي تسوية مُحتملة في صالح النظام السوري والقوى الحليفة له.

وبالنسبة إلى المطالب الإسرائيليّة التي كانت مدار بحث خلال قمّة هلسنكي الأخيرة بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ونظيره الروسي ​فلاديمير بوتين​، فهي تركّزت على إبعاد التواجد العسكري الإيراني المباشر وغير المُباشر، عبر الخبراء والميليشيات المُناصرة لطهران، عن مناطق السيطرة الإسرائيليّة في الجولان المُحتلّ وعن الحدود المُشتركة بين سوريا وإسرائيل. وبالتالي، لم تُعارض إسرائيل عودة الجيش السُوري إلى مناطق تواجده السابقة في القنيطرة، بعد توافق كل من ترامب وبوتين على إزالة أي مُسبّبات في سوريا قد تؤدّي إلى صدام عسكري بين إسرائيل وإيران.

وفي الخلاصة، إنّ صفحة تغيير النظام في سوريا طويت لفترة طويلة حاليًا، والضُغوط ستتكثّف لفرض تسوية تحفظ المصالح الروسية بالدرجة الأولى، وتُعطي الجهات التي ساعدت الرئيس السوري بشّار الأسد على الصمود اليد الطولى في إستثمارات إعادة الإعمار، على أن تكتفي إسرائيل بعودة الأمور إلى ما كانت عليه من إستقرار على الحدود مع سوريا كما كانت الحال عليها قبل إندلاع الحرب السُورية، وعلى أن تكتفي تركيا بما تحقّق مُقابل وقف دعمها للمعارضة لجهة عدم السماح بقيام منطقة حكم ذاتي كرديّة على حدُودها، وعلى أن تكتفي أميركا بأن تنال مكاسب تنشدها في العالم في مقابل تنازلاتها في سوريا.