على الرغم من استمرار المناوشات بل تصاعدها بين "​التيار الوطني الحر​" و"​القوات اللبنانية​"، تحدّثت تسريبات عطلة نهاية الأسبوع عن "حلحلة" على خط "العقدة المسيحية"، تمثلت في قبول "القوات" الحصول على أربع حقائب فقط، وبالتالي تنازلها عن مطلب الحقيبة السياديّة وحتى نيابة رئاسة الحكومة، تسهيلاً لتأليف الحكومة.

وبمعزل عن صحة هذه التسريبات من عدمها، أوحت المعطيات بأنّ كرة الحكومة انتقلت من الملعب المسيحي إلى الدرزيّ، على اعتبار أنّ الحكومة باتت متوقّفة حصراً على "تنازلٍ" يقدّمه رئيس "​الحزب التقدمي الاشتراكي​" النائب السابق ​وليد جنبلاط​، هو الذي سبق أن نُقِل عنه أنّه لن يكون "العائق" لولادة الحكومة، إذا ما حُلّت كلّ العقد.

لكن، هل فعلاً أصبحت الأمور مرهونة بموقف "جنبلاطي"، أم أنّ العقد الكامنة خلف الكواليس لا تزال الأقوى؟ وأيّ "تنازلٍ" يُنتظَر من جنبلاط أصلاً؟!.

أين العقدة؟

الأكيد بداية أنّ أيّ تغييرٍ لم يطرأ على خط العقدة الدرزية منذ اليوم الأول لاستشارات تأليف الحكومة، أقلّه في العلن. لا تزال كتلة "اللقاء الديمقراطي" متمسّكة بحقّها البديهيّ بتسمية الوزراء الدروز الثلاثة في الحكومة، طالما أنّ المعيار المعتمَد في تأليفها هو ترجمة نتائج الانتخابات النيابية التي أعطت الكتلة سبعة مقاعد من أصل ثمانية، علماً أنّها كانت قد تركت الثامن شاغراً أصلاً لرئيس الحزب "الديمقراطي اللبناني" الوزير ​طلال أرسلان​. وفي المقابل، يصرّ الأخير على حقه في أحد المقاعد الدرزية، خصوصاً بعدما نجح في تشكيل كتلة نيابية، بدعمٍ واضحٍ من "التيار الوطني الحر"، ولو كان الدرزيّ الوحيد فيها.

وعلى الرغم من طرح العديد من "الحلول الوسط" خلال مراحل المفاوضات، فإنّ أياً منها لم يجد قبولاً لدى جنبلاط، لعلّ أبرزها كان أن يحصل على وزير مسيحي مقابل التنازل عن وزير درزي، أو أن يسمّي أسماء عدّة ليختار رئيس الجمهورية العماد ​ميشال عون​ بينها اسماً واحداً، أو أن يتمّ التوافق على شخصية تقف في منتصف الطريق بين جنبلاط وأرسلان. وما كان يمكن أن يقبله جنبلاط رفضه أرسلان في الضفة الأخرى، كأن يتمثّل حزبه بشخصية مسيحية في الحكومة، خصوصاً أنّ كتلته تضمّ أصلاً ثلاثة وزراء مسيحيين مقابل درزي واحد، وهو ما اعتبره من الخطوط الحمراء، على اعتبار أنّ لحزبه حيثية درزية تاريخية لا يجوز القفز فوقها.

المشكلة وسط كلّ ذلك أنّ العقدة التي يتمّ تصويرها محصورة عند جنبلاط، وكأن المطلوب منه هو أن يقدم على "التنازل" والموافقة على تمثيل أرسلان كما كان يفعل دوماً، ليست كذلك برأي "الاشتراكيين"، الذين يعتبرون أنّها في مكانٍ آخر، وتحديداً عند أرسلان ومن خلفه "التيار الوطني الحر" الذي يحرّضه بصورة مباشرة أو غير مباشرة على رفع السقف، وفق ما يقولون. وفي هذا السياق، يلفتون إلى ما يقوله أرسلان علناً وفي السرّ عن أنّه لن يقبل بأيّ حلّ سوى أن يتمثل هو أو من يسمّيه للمقعد الدرزي في الحكومة، بل يذهب أبعد من ذلك بالمجاهرة بأنه لن يقبل حتى بحقيبة دولة، أو حتى بحقيبة عادية، وإنما يريد حقيبة مهمّة، وكأنّه في وضعٍ يسمح له بفرض الشروط.

تنازلٌ مشروط...

قد يتفهّم "الاشتراكيون" أن يكون "التيار الوطني الحر" ينطلق في دعمه غير المسبوق لأرسلان، لا من التفاهم الانتخابي والسياسي مع الأخير، بل من "هاجسه" من أن يصبح مصير الحكومة بيد النائب السابق وليد جنبلاط، إذا استولى على المقاعد الدرزية برمتها ما يمنحه سلاح "الميثاقية"، الذي سبق أن جُرّب، عندما انسحب الوزراء الشيعة من حكومة فؤاد السنيورة، وكان "التيار" من أصحاب الرأي القائل بفقدان الحكومة لميثاقيتها. إلا أنّهم يطرحون عشرات علامات الاستفهام عن خشية "التيار" بالتحديد من التعطيل، بعدما أبلى بلاءً أكثر من ممتاز على هذا الصعيد على مدى السنوات الماضية، سواء في الحكومات أو في المجلس النيابي أو غيره، خصوصاً في ظلّ فترة الفراغ الرئاسي، التي لم تنته إلا بعدما أذعن الفرقاء الآخرون لشرط انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية.

لكن، أبعد من ذلك، يرى "الاشتراكيون" أنّ أيّ حلّ يمكن التوصّل إليه على هذا الصعيد يتطلب أولاً خفض أرسلان لسقفه الكلاميّ، حتى لا يتحوّل أيّ "تنازل" يمكن أن يقدم عليه "البيك" من أجل المصلحة العامة إلى "انتصار" يتبجّح فيه الأخير وكأنّه حقّق "فتح مكة"، وهو ما يقتضي أن "يتواضع" رئيس "الحزب الديمقراطي" الذي ذهب لحدّ تصوير "زعامة" جنبلاط في الساحة الدرزية، وكأنّها "مِنّة" من رئيس المجلس النيابي ​نبيه بري​، فيما يعلم القاصي والداني أنّ العكس هو الصحيح، وأنّه كان من الممكن ألا يتمثّل أرسلان في المجلس النيابي لولا ترك مقعده شاغراً، علماً أنّه نافس مرشحي "الاشتراكي" في العديد من المواقع الأخرى، مصطدماً مع حلفائه أنفسهم، من دون أن يحصد شيئاً يُذكَر.

من هنا، ثمّة اعتقادٌ راسخٌ لدى كثيرين أنّ جنبلاط مستعدٌ لتقديم "تنازلٍ ما" في نهاية المطاف، إذا كان تأليف الحكومة فعلاً متوقفاً عليه، وهو ما لا يبدو مقتنعاً به حتى الآن رغم كلّ شيء. وإذا كان "شكل" هذا التنازل غير واضح المعالم بعد، توحي الكثير من المعطيات بأنه سيكون "مشروطاً"، لأنّ جنبلاط يرفض تقديم "هدايا مجانية" لأرسلان بعد كلّ الحرب الإعلامية التي خاضها الأخير في وجهه من دون حساب "خط الرجعة"، وقد يكون بين الشروط وضع "فيتو" على اسم أرسلان نفسه، على أن يسمّي من ينوبه في الحكومة، وإن كان كثيرون يستبعدون الوصول إلى مثل هذا السيناريو في نهاية المطاف.

رميٌ للمسؤولية؟!

يقول العارفون إن جنبلاط مستعدٌ إذاً لتقديم التسهيلات لتأليف الحكومة، مع بعض الشروط، أولها أن تكون التنازلات متبادَلة بينه وبين "التيار الوطني الحر"، وبالتالي بينه وبين "صديقه" سابقاً، "خصمه" حالياً الوزير طلال أرسلان، حتى لا يصوّر الأخير الأمر وكأنّه "انتصارٌ تاريخيّ" حقّقه مرّة جديدة بسواعد الآخرين.

إلا أنّ الأكيد أنّ أيّ "تنازل" لن يكون مطروحاً قبل أن يتبلّغ جنبلاط من المعنيّين بأنّ لا شيء يحول دون تأليف الحكومة سوى "العقدة الدرزية"، لأنّ المسألة ستبقى دون ذلك مطروحة على "بازار التفاوض" الشامل. ولعلّ السرّ خلف هذا "الشرط" يكمن في شعورٍ أكثر من مبرَّر لدى جنبلاط بأنّ هناك من يريد أن يرمي بـ "عبء" المسؤولية عليه، وكأنّ العقدة عنده، فيما هو يعرف قبل غيره أنّها في مكانٍ آخر، أبعد ما يكون عنه...