إعتبارًا من العام 2005 تدهورت علاقة ​لبنان​ الرسمي مع النظام السُوري بشكل كبير، وانقسم لبنان بشكل عمودي بين مُؤيّد ومُعارض للنظام، ليُصبح هذا الإنقسام أكثر حدّة بعد إندلاع الحرب السُوريّة في العام 2011. واليوم، ومع التحوّلات الميدانيّة الكُبرى في ​سوريا​ لصالح النظام، ومع التغييرات في موازين القوى داخل لبنان لصالح الجهات السياسيّة التي تؤيّد هذا النظام، عاد الحديث عن قُرب عودة العلاقات بين الدولتين اللبنانية والسورية إلى سابق عهدها. فهل هذا الأمر مُمكن؟.

بالنسبة إلى القوى والأحزاب السياسيّة المُؤيّدة لمحور "المُقاومة والمُمانعة"، فإنّ علاقاتها مع النظام السُوري لم تنقطع يومًا، حيث بقيت الزيارات والإتصالات مع دمشق قائمة بدون إنقطاع، لكن بعيدًا عن الإعلام. وبلغ الأمر في السنوات الماضية مرحلة إرسال المُقاتلين لدعم النظام السُوري في معاركه ضُد الجماعات المُسلّحة المُعارضة له، وقد قاد "​حزب الله​" هذا الإتجاه، ولحقه "​الحزب القومي​ السُوري الإجتماعي" وغيره من القوى، في حين كان موقف "تيّار المُستقبل" والعديد من الأحزاب والشخصيّات التي كانت مُصنّفة في خانة قوى "​14 آذار​" السابقة، رافضًا لأي تواصل مع القيادة السُورية، ومؤيّدًا للجُهود التي مُورست من قبل بعض الدول العربيّة والغربيّة لإسقاط النظام.

واليوم، يُحاول الفريق المؤيّد والداعم للنظام السُوري، إعادة تطبيع العلاقات بين لبنان وسوريا على المُستوى الرسمي، أي على مُستوى الدولتين، مُستفيدًا من دعم "التيّار الوطني الحُرّ" لهذا الخيار، ليس من مُنطلق التأييد السياسي كما هي حال القوى المُصنّفة في خانة "​8 آذار​"، إنّما من مُنطلق ضرورة التنسيق الكامل مع ​النظام السوري​، وإنهاء حال العداء مع القيادة السُوريّة، تمهيدًا لحلّ قضيّة النازحين السُوريّين في لبنان، والعمل على إعادتهم تدريجًا إلى سوريا. إشارة إلى أنّ القوى التي تضغط حاليًا لتطبيع العلاقات اللبنانيّة–السورية تنطلق بمُطالبتها بالتطبيع رسميًا مع سوريا، من ضرورة حلّ ملف النازحين، وكذلك من ضرورة ضبط الحدود بين البلدين ومنع مُختلف أعمال التهريب، ولإعادة نقل البضائع اللبنانيّة إلى ​الدول العربية​ عبر سوريا بعد عودة السيطرة السورية على أغلبيّة المعابر الحُدودية، ولعودة لبنان للعب دور "دولة الترانزيت" لجهة وُصول البضائع والمنتجات إلى مرفأ بيروت قبل نقلها برّاً إلى سُوريا ومن ثم إلى العديد من الدول العربية وتركيا وغيرها. كما تؤكّد القوى المُطالبة بتطبيع العلاقات مع سوريا ضرورة تنقية العلاقات اللبنانية–السورية من الشوائب التي سادت أخيرًا، تمهيدًا للإستفادة من عمليّات إعادة الإعمار الضخمة التي ستنطلق في سوريا في المُستقبل القريب، والذي يُمكن للبنان أن يكون له فيها دور مركزي، مع ما لهذا الأمر من إنعكاسات إيجابيّة على الشركات اللبنانية وعلى المُقاولين والتجار اللبنانيّين وعلى ​الإقتصاد اللبناني​ عُمومًا.

في المُقابل، يُحاول "تيّار المُستقبل" ومعه كل من حزبي "القوات اللبنانيّة" و"​التقدمي الإشتراكي​" تأخير عمليّة التطبيع على المُستوى الرسمي قدر المُستطاع، إنطلاقًا من إعتبارات عدّة، أبرزها أنّ القيادة السُوريّة لم تقم بأي مُبادرة إيجابيّة تجاه لبنان ليبادلها بالمثل، وأنّ لبنان الرسمي يجب أن يُحافظ على سياسة "النأي بالنفس" وألاّ يخرج عن الإجماع العربي بخُصوص توقيت إعادة تطبيع العلاقات مع سوريا،وعليه أيضًا أن ينتظر التسوية الكُبرى في المنطقة والتي ستشمل ملف الحرب السُوريّة ويتقيّد ببنودها حتى لا تأتي على حسابه. ويعتبر هذا الفريق أنّ التنسيق الأمني بين لبنان وسوريا بالنسبة إلى ضبط الحُدود قائم على أكثر من خط، والعلاقات الإقتصادية قائمة أيضًا بحكم الضرورة للطرفين، حيث أنّ لبنان يحتاج إلى المرور بسوريا لنقل البضائع برًا وسوريا تستفيد ميدانيًا من هذا الأمر. ويُشدّد هذا الفريق على أنّه بالنسبة إلى ملف النازحين، فإنّ الدور الذي يُؤدّيه مدير عام الأمن العام ​اللواء عباس إبراهيم​ بغطاء سياسي، كفيل بتنسيق عودة بعض المجموعات الصغيرة من النازحين الذين لا يُواجهون أي مشاكل، بينما العودة الجَماعية لكل النازحين تحتاج إلى قرار دَولي كبير، ربما بدأت تُطلّ بوادره بعد الإتصالات الأميركية–الروسيّة في هذا الشأن والتي أفضت إلى إتفاق أوّلي لعودة الملايين منهم من دول الجوار إلى سوريا، ويحتاج أيضًا إلى موقف إيجابي من النظام إزاء أبناء بلده، ولا علاقة له بتحسّن العلاقات اللبنانيّة–السورية، إلا إذا كان النظام السوري يريد إستغلال ملف لجوء مُواطنيه في لبنان لابتزاز السُلطة اللبنانيّة ولإرغام بيروت على تقديم تنازلات سياسيّة لصالح دمشق، وإلا إذا كانت بعض القوى في لبنان تريد إستغلال هذا الملف لإعادة تطبيع العلاقات مع سوريا على حساب توتير علاقاته العربيّة ومن دون الحُصول على أي مكسب، حتى على مُستوى النازحين!.

في الخلاصة، لا شكّ أنّ ملف تطبيع العلاقات بين لبنان وسوريا هو ملف شائك ودقيق، لكنّه في المرحلة الأخيرة بدأ يشهد تطوّرات ميدانية تؤكّد أنّ المُعارضة في العلن من قبل بعض القوى السياسية داخل لبنان، لن تكون كافية لوقف خُطوات التطبيع المُتلاحقة التي تجري في الخفاء من قبل بعض القوى السياسية الأخرى، مع إحتمال أن يتحوّل هذا الموضوع إلى موضوع خلافي جديد عند ​تشكيل الحكومة​ المقبلة، علمًا أنّ هذا الموضوع بالتحديد هو من المواضيع الأساسيّة التي تدفع بعض القوى السياسيّة إلى التمسّك بضرورة الحُصول على تمثيل وزاري وازن منعًا لفرض أي قرارات عليها.