إسترعى انتباهي برامج المذيعة البريطانية "كلير فورستر" وهي تفسر آيات ​القرآن الكريم​ من منظورٍ آخر يختلف تماماً عن التفاسير الإسلامية الموضوعة من فقهاء ورجال دين مسلمين. كلير فورستر تستدل على صحة آياتٍ قرآنية بالإثبات العلمي المثير للدهشة فتقدم الآية على أنها إخبارٌ قديم لنظريةٍ علميةٍ حديثة، ثبتت صحتها عملياً وتستنج بذلك أن كاتب القرآن الكريم لايمكن الا أن يكون خالق الكون نفسه. ولايسع المشاهد إلا أن يقتنع بما تطرحه السيدة كلير بل وأكثر بكثير من إقتناعه بما أفضت عنه تفاسير القرآن الكريم التي كُتِبَت حتى الآن عن الآيات نفسها، هذه التفاسير التي يستند عليها فقهاء المسلمين في تشريعاتهم وفي تقديمهم للدين الإسلامي باعتباره مجموعة قوانين ترتكز على ما فهمه الفقهاء من آيات القرآن الكريم، والتي لطالما أثرت في النشوء التكويني للفرد المسلم وفي سيرورة المجتمعات الاسلامية وحتى في النظرة الشمولية للحياة بكليتها لدى المسلمين ولدى غير المسلمين أحياناً.

هل يصح تفسير الكُنه الإلهي للدين وفهمه، بالإستناد الى الواقع، الى حاجات ​الانسان​، الى العلم، أو بتجردٍ عن التاريخ والمرويات بل بتجردٍ عن رجال الدين أنفسهم أوحتى عن الإنتماء الديني؟ هل التفسير العقلي أو العلمي المحض إن كان داحضاً في صحته سيُسمح له بتغيير القديم المعمول به ليحل محله في ردة فعل طبيعية لباحثين عن الحقيقة؟.

ما جاءت به السيدة كلير حتى الآن يحتِّم الإجابةَ بنعم كأمرٍ واقع، ولكن ماذا عن رجال الدين أولاً وجمهور الأتباع من العامة لاحقاً؟.

وبالعودة الى المنطلق، من الواضح الآن إنقسام الأديان عملياً الى جزئين، جزء الهي وهو الدين بكنهه وبمضمونه دون تأويلٍ من الإنسان، وجزء بشري وهو فهم البشر للدين وتقديمه للجمهور وللأتباع بالإرتكاز على قراءة وتأويل واستنتاجات شخص واحد أو أكثر، ليكون هذا المفهوم البشري للدين هو التدين نفسه، بحيث أضحى فهم شخص واحد أو أكثر هو الموضوع الإيماني للأتباع أكثر من الجزء الإلهي الأصيل للدين. لقد حل الفهم البشري للدين محل المقاصد الإلهية غير النهائية بعد في فهمنا للدين، وهما مختلفان بوضوح في محطاتٍ عدة، وهذا باعتبار تفسير السيدة كلير لبعض الآيات القرآنية الكريمة مثالاً أو إشارة تنبيه لما ذُكِر. مثال على ذلك تفسير السيدة كلير العلمي للآية الكريمة التي جاء فيها: "زيتونة لا شرقية ولا غربية"، ثمة اختلاف شائك ونقيضي بين المعنى المُقنِع الذي تطرحه وبين المعنى الذي راج مئات السنين في التفاسير التي وضعها رجال الدين والفقهاء. فأيهما الأصح وأيهما الذي يُبنى عليه؟.

أستحضر هنا سؤالاً راود الأذهان على لسان بطل رواية موسم الهجرة الى الشمال للكاتب الطيب الصالح الذي قال "من يعلم ماذا يدور في خلد الإله؟. "تستعرض السيدة كلير في تفسيرها اجاباتٍ مقنعة جداً ولكن مختلفة عن تفسير رجال الدين والفقهاء بشكل يدعو للدهشة وللحيرة معاً.

ثمة أزمة مصداقية جدية تلوح في الأفق وستستوجب من الفقهاء ومن رجال الدين البدء بأعمال الرد بحسب منهجيتهم.

التحجيم الذي يتعرض له الدين وتجزيئه وقولبته وتأطيره لاستعماله كشاهدٍ على صدقية السياسة والمنفعة المادية للبعض، قد سمح بتجاوزات عديدة ادت في كثير من الأحيان الى وقوع الظلم مما خلق فجوة كبيرة، لدى المتابعين والمتأملين، بين الجزء الإلهي الذي عملياً يستوجب وبالضرورة خلق واقعٍ يُرضي الإنسان في جميع حالاته الإنسانية، و بين الجزء المبني على الفهم البشري من الدين، فجوة وصلت الى حد التعارض الواضح وهذا ما يجعل الموروث الثقافي الديني المرتكز على الأحكام والمرويات والتأويلات البشرية للدين محل تساؤلٍ في مصداقيته وتحت خطر أنه لم يعد مقنعاً للكثيرين، في اتجاهٍ لثقافة عالمية الظلال تحتاجها المجتمعات في سعيها الراجي لتحقيق العدالة التي هي الغاية النهائية لكل الأديان. عدم الإتفاق هذا بات محسوساً لدى الأتباع العامة أيضاً، وأثره بدأ يظهر وإن بخجلٍ في مجتمعات معنيّة كالعراق، ليبيا، تونس، مصر وغيرها.

سيزيد من أزمة رجال الدين والفقهاء هذا الإقتراب المكاني الشديد بين الثقافات والمجتمعات عبر الهجرة والتقنيات الحديثة مما سمح بتبادلٍ ثقافي لا مثيل له وأحياناً بمواجهة ثقافية مع الآخر، فبات غير المسلم معني بايمان المسلم والعكس صحيح، إنه واقع يولد واقعاً آخر، وعليه، هل سيُقبل تفسير غير المسلم للقرآن الكريم؟ هل في إمكان رجال الدين والفقهاء إحتكار معنى الدين في الوقت الذي بات هو جانبٌ ثقافي يعني الانسانية جمعاء؟ وإن حدث، هل سيستطيع القديم الاستمرار في وجوده دون انفضاضٍ كبيرٍ في الأتباع؟.

هي حتمية الزمن بمتغيّراته، إنها أزمة حقيقية لن تترك الأمور على ماهي عليه، ستأتي بالجديد الذي يلازم الزمن في عبوره ومتغيراته، إن المعركة القادمة لرجال الدين والفقهاء ستكون من الآن فصاعداً معركة الدفاع عن التفاسير، وستكون هي المعركة الأصعب.