فجأة، ومن دون سابق إنذار، وعلى وقع تصاعد الخلافات حول تأليف حكومة "الوحدة الوطنية" وتقاسم حصصها ومغانمها بين مختلف الفرقاء، ظهرت خلال اليومين الماضيين حملة "مجهولة" أطلقت على نفسها اسم "الحملة الوطنية لإلغاء المحكمة الخاصة بلبنان"، لتعيد فتح جدالٍ حول قضيةٍ اعتقد كثيرون أنّ النقاش بها أقفِل منذ فترة طويلة.

وفي حين سارعت كتلة "المستقبل" لتلقف الموضوع، واصفة هذه الأصوات بـ "النشاز"، وجازمة بأن "المحكمة هي من ضمن قرارات الشرعية الدولية التي يلتزم بها لبنان التزاماً كاملاً"، تُطرَح علامات استفهام بالجملة، فمن وراء هذه "الحملة"؟ وما معاني ودلالات إطلاقها في هذا التوقيت بالذات؟ وهل من "نتائج" يمكن أن تحقّقها أصلاً، في ملفٍ "خلافيّ" بهذا الحجم؟!.

الأحكام قريبة؟!

من خارج السياق العام إذاً، أطلّت "الحملة الوطنية لإلغاء المحكمة الخاصة بلبنان"، لتعيد شيئاً من "الهيبة" إلى محكمةٍ غُيّبت عن الاهتمام على مدى الأشهر، بل ربما السنوات الماضية، بعدما فقدت الكثير من "الألق" الذي تمتّعت به عندما تشكّلت، بعيد اغتيال رئيس الحكومة الأسبق ​رفيق الحريري​، في الرابع عشر من شباط 2005، في جريمةٍ وُصِفت بـ"الزلزال"، ولا يزال لبنان يعيش تداعياتها حتى يومنا هذا.

وإذا كانت المحكمة عادت قبل أسابيع إلى الأضواء مؤقتاً مع شهادة المدير العام السابق للأمن العام النائب اللواء ​جميل السيد​، الذي نجح في "انتزاع" اعتذار من رئيسها ديفيد ري، حين أقرّ بأنّ اعتقال الضباط الأربعة "لم يكن قانونياً وهو متنافٍ مع حقوق الإنسان الدولية"، فإنّ هذه الجلسة استحوذت بسبب هذا التصريح بالتحديد على اهتمامٍ غاب عن معظم جلساتها الأخرى، التي لم تقدّم ما يمكن أن يضيف شيئاً إلى المشهد العام.

من هنا، بدا مستغرَباً أن تخرج اليوم "حملة" تصنّف نفسها بـ "الوطنية" وتدعو لإلغاء المحكمة التي يتعامل أصلاً المعنيّون بها، وفي مقدّمهم "​حزب الله​" الذي يعتبرها سيفاً مصلتاً على

رأسه، وكأنّها غير موجودة، علماً أنّ المحكمة سبق أنّ وجّهت الاتهام رسمياً إلى أربعة من مقاتلي الحزب بالتورّط في جريمة اغتيال الحريري، الأمر الذي رفضه الحزب واعتبره دليلاً على "تسييسها"، ما دفعه لاتخاذ قرارٍ بعدم تسليم المتهمين. ولعلّ مكمن "الاستغراب" كان في أنّ العناوين التي تطرحها هذه "الحملة" ليست جديدة، بل هي موجودة منذ نشوئها، سواء لجهة تسييسها وتجاوزاتها، أو حتى لجهة الأعباء المالية التي تكبّدتها الدولة اللبنانية جراءها.

وفي وقتٍ ربط كثيرون ظهور هذه "الحملة" التي لا تزال تبحث عن راعٍ مُعلَن لها، بعدما بدا النائب ​عبد الرحيم مراد​ "المتطوّع" شبه الوحيد لهذه المهمّة، بالمتغيّرات السياسية، على اعتبار أنّ تطورات المنطقة، فضلاً عن ​الانتخابات النيابية​ الأخيرة في لبنان، أعطت "حزب الله" وحلفاءه دفعاً واضحاً، ربطها آخرون بإجراءات المحكمة نفسها، خصوصاً في ضوء توقعات باقتراب المحكمة من إصدار أحكامها، وهو ما ألمحت إليه كتلة "المستقبل" نفسها بقولها إن "المحكمة قطعت شوطاً كبيراً في إظهار الحقيقة وإحقاق الحق في هذه القضية الوطنية الكبرى".

انقلابٌ جديد؟

عموماً، سواء أعلن القيّمون على الحملة عن أنفسهم أم لم يعلنوا، وسواء كانت مرتبطة بالتطورات السياسيّة أم أنّها تستبق صدور الأحكام من خلال إعادة إلقاء الضوء على محكمةٍ ينظر إليها جزء كبير من اللبنانيين على أنها "أداة سياسية"، فإنّ الأكيد قانونياً أولاً، قبل السياسة، أنّ مثل هذا الإلغاء غير مطروح على طاولة البحث اليوم بأيّ شكلٍ من الأشكال.

لا يعود ذلك فقط إلى عدم رغبة أحدٍ في الداخل بإعادة "التشنّج" على قضيّةٍ حسّاسةٍ كقضية ​المحكمة الدولية​، وبالتالي إعادة عقارب الساعة إلى ما تلا مرحلة اغتيال الحريري من انقسامات عمودية لا يفترض أنّ أحداً في لبنان يسعى إلى استرجاعها عملياً فحسب، ولكن أيضاً إلى أنّ لبنان لا يملك "ترف" إلغاء المحكمة التي أنشئت في ​الأمم المتحدة​، أي بقرارٍ دولي، ولو جاء ذلك بناءً على طلبٍ لبناني، ما يعني أنّ إنهاء أعمالها يتطلب قراراً دولياً، لا يُعتقَد أنّ مقوّماته يمكن أن تتوافر حالياً، خصوصاً أنّ "فيتو" من دولةٍ واحدةٍ من الدول دائمة العضوية في ​مجلس الأمن​ كفيل بالإطاحة به.

وإذا كان مسلّماً به أنّ المطالبة بإلغاء المحكمة لزوم ما لا يلزم اليوم، وأنّ المحكمة مستمرّة بعملها بصمت، في ظلّ الانقسام اللبناني المستمرّ أيضاً حولها ولكن بهدوء، فإنّ ذلك لا يعفي من طرح التساؤلات عن "النوايا" الكامنة خلف التلويح بها اليوم، في زمن ​تشكيل الحكومة​ الجديدة، والتي يراها فريقٌ أساسيّ من اللبنانيين "غير بريئة" بأيّ شكلٍ من الأشكال. وفي هذا الإطار، لا يتردّد البعض في الربط بين هذه المطالبات، والمناكفات الحاصلة على خط تأليف الحكومة، بل ما هو أبعد من ذلك، وتحديداً توجيه رسائل مفادها أنّ الانتخابات الأخيرة غيّرت الكثير من المعادلات، وقد تكون المحكمة بحدّ ذاتها واحدة منها.

ولعلّ ذهاب البعض لوضع السجال المتجدّد حول المحكمة في إطار "الانقلاب على ​التسوية الرئاسية​"، ولو بدا مبالَغاً به في الكثير من جوانبه، خير دليلٍ على وجود أبعادٍ "سياسيّة" خلف كلّ النقاش الحاصل، أبعاد يُعتقَد أنّها ستبقى محصورة في مكانها، بمعزلٍ عن أيّ شيءٍ آخر، خصوصاً أنّ الجميع يدرك أنّ لبنان القائم على التوافق بين مكوّناته، لا يتحمّل اليوم "هزّة" من نوع العبث بمحكمة، عبثٌ سيوقظ "هواجس" فريقٍ كان يعتبرها من الخطوط الحمراء، ولو رآها آخر "استهدافاً مباشراً" له.

لزوم ما لا يلزم

باختصار، يمكن القول إنّ المطالبة بإلغاء المحكمة الدولية الخاصة بلبنان لزوم ما لا يلزم.

صحيحٌ أن كثيرين يعتبرون أنفسهم متضرّرين من هذه المحكمة، سابقاً وحالياً ولاحقاً، وصحيحٌ أن كثيرين أيضاً يعتبرون أنّها لم يكن يفترض أن تتشكّل من الأصل، وكان بالإمكان الاستعاضة عنها من خلال الاستعانة بقضاة دوليّين، وصحيحٌ أن أكثر منهم يعتبرون أنّها ترهق الخزينة اللبنانية من دون نتيجةٍ تُذكَر، لكن الصحيح أيضاً أنّ أكثر من كلّ هؤلاء يعرفون أنّ مثل هذه المطالبات لا يمكن أن تحصد أيّ نتيجة.

أما إذا كان البعض يعتقد أنّ مثل هذه المطالبات يمكن أن يكون لها "انعكاسات" في السياسة، على خط تأليف الحكومة، انطلاقاً من تغيّر المعادلات الداخلية، فإنّ ثمّة من يرى أنّ النتائج قد تأتي عكسيّة، بحيث ينقلب السحر على الساحر، لأنّ لبنان العاجز عن تشكيل الحكومة

بسبب سعيه إلى "إرضاء" جميع الفرقاء، أعجز من أن يعود بعقارب الساعة إلى الوراء، وتحديداً إلى العام 2005 وما جرّه على اللبنانيين...