تبدو السلطة كمفهوم في حالة إنكماش مرعب على مستوى العالم ككل، لكنها أكثر ضموراً وإرباكاً في بلادنا التي أدمنت مفاهيم وسلوك السلطات التقليدية العربيّة حتّى ولو كانت ديمقراطيات مستوردة مستحيلة التطبيق كما هو حاصل في النموذج اللبناني بعد سبعة قرون من الديمقراطيات الإسمية. لا لزوم للمكابرة في الإعتراف والتفكير بأنّ هناك إنهيارات كبرى يمكن ملاحظتها ورصدها مع كل مشهد علائقي عائلي أو مدرسي أو جامعي أو حدث إجتماعي أو سياسي يلتفّ على عتم الواقع. هناك تراكم أخطاء وأساليب لها تفاعلات ونتائج سيئة أكثر من أي زمنٍ سابق باللجوء الى شدّ براغي السلطات القضائية والعسكرية والإحتيال في برمها حول أعناق الناس بهدف الإستقرار والمحافظة على الحاضر.

حلّ زمن يجوز فيه ​الطلاق​ مع كتاب الأمير لنقولا ميكيافلي!

لماذا؟

لأنّ اللجوء الى إحتقار الليونة في إستعمال السلطات سيؤدّي إلى التمرّد وفتح النوافذ على الدول والشركات المتربّصة بالدول والجماعات الصغيرة. وقد ينسى الحاكم أو المسؤول أو ينسيه المستشارون المحيطون به أنّ مقابل تعويض الإنكماش في السلطة نقيضه المتنامي أعني الانتساب المخيف إلى هذا اللحاء البشري ، خصوصاً وأنه انتساب يعني في ما يعنيه أن واحدنا موصول بل مفتون بالبشرية كلها صامتاً أو هامساً يسمع صداه أو صدى الآخر. السبب أنّ الأفكار والفلسفات القديمة والحديثة التي تحاول مصالحة الشباب مع التكنولوجيا تتعثّر بعدما حوّلته إنساناً رقمياً يعيش في مجتمعات متنوعة متحركة وله صفات وأمزجة جديدة متعددة ومغايرة لمن حوله.

تتشابه تلك المجتمعات بالمهنى الثقافي والقيمي لتسمى مجتمع ما بعد الصناعة أو ما بعد الحداثة وهو مجتمع المعلومات الثالث حيث سلطة عصر ​انفجار​ المعلومات وثورتها أو ثورة الاتصال وعصر اقتصاد المعرفة. إنّه مجتمع يكاد يكون واحداً حيث الأرقام والرموز بأنواعها تعبء مع الصوت والنص والصورة، والمكتوب

والمنطوق، المحسوس وغير المحسوس الأمكنة والأزمنة والعقول وتفكك الأسرار البيولوجية الدفينة الوهمية والممكنة. وتنتشر أشياء هذه المعلومات من أدوات المطابخ السريعة إلى المفاعلات الذرية. إنّها صناعات الأوهام التي تسعى لإقامة عوالم مصطنعة مركبة وغير واقعية سلطاتها البديلة في الحاجات التكنولوجية مثل الماء والغذاء والهواء.

قد يستلحق الإنسان العادي أولاده وأحفاده المزوّدين بقدرات وطاقات معلوماتية يحسنون بواسطتها السرعة على جادات المعلومات من دون أن يكون صاحب اختصاص أو كفاءة. ويصبح عدم الكفاءة بالمعنى الجديد، هي الكفاءة الجديدة الشاملة حيث الفرد هو مجموعة من الخبرات والطاقات لا المعارف. وتصبح الهوية خارج دوائر النضوج أو القصور لأنّها هوية وهمية سائلة متحركة، لا تأخذ بصمتها إلا خلف الشاشة حيث يعمل الناس سوياً عن بُعد.

بهذا المعنى تكمن الإنشقاقات والمتغيرات والتحولات بين خطّ الإنكماش وخط الإنتساب في البحث عن الذات في الحرية فتحصل الإنشقاقات في المنازل المتواضعة كما في القصور الضخمة والمجتمعات المتنوعة. فعندما يتحاور السياسيون والإعلاميون حول السياسة والتراث والتاريخ وقضايا الدين والتطور والتغيير، يكون هناك جيل جديد متحرّر بالكامل من الأفكار المسبقة كلِّها في المشهد الرقمي. هؤلاء الصبية في الأجيال المتقاربة يبدوا لي غير مجبرين على التجاور الجسدي لتوفير ظروف صداقاتهم بما يجعلهم متعاضدين، بل يلعبون ويشعرون بتقاربهم وتفوّقهم وذكائهم الخارق وهم يعتبرون أن ​التكنولوجيا الرقمية​ الشائعة تشكل قوةً طبيعية صارخة تشدّ الناس نحو تناغم عالميّ أو ذكاء عالمي أوسع.

يخضع هذا التوجه العالمي المعروف بالانكماش في السلطات حتى درجة التلاشي إلى ابتكار رقاقات أجيال الكومبيوتر التي تخضع للتتلاشى والضمور إلى ما يفوق التصور وصولاً لحجم الخلية الانسانية التي سيتمكن العلم من زرعها في الأجسام أو الأدمغة والتحكم بها.

ما هو موقع/وقع الكلام عن التغيير على الأجيال؟

قد ينظر البعض إلى الذكاء/المواهب المتدفقة بكونه هرطقة العلميّة يصعب تصنيعها، لأن المخ لا يحاكى أو يُقلَّد بالنسبة للبيولوجيين، أو يحكم علماء النفس بعدم جواز فصل المعرفة واللغة مثلاً عن المشاعر، أو يحكم علماء الكومبيوتر على الذكاء بأنه آلة تكرارية تحمل وتعيد ما سبق وتمّ تغذيتها بها، ولا يمكنها من استحداث معلومات جديدة. أقول على الرغم من هذه الاعتراضات كلها، يتابع مهندسو الذكاء في قناعاتهم

الراسخة التأكيد أن هناك نموذجاً محدداً ولغة لكل نشاط معرفي استناداً إلى وظيفية الدماغ البشري. ويستندون، في ذلك، إلى أمثلة حسية تدل على الذكاء الاصطناعي كالنظم الآلية القادرة على تشخيص الأمراض، وآلية لعبة الشطرنج التي هزمت فطاحل اللاعبين المحترفين، ونظم تحديد الثروات الجيولوجية، ومحاولات الترجمة والنقل الآلية بين الانكليزية ولغات أخرى، وعدد كبير من النظم والنظريات الرياضية التي تجعل الشخصية البشرية في حالة انهيار وضمور قبل أن تتكلم أو تعلم، تسبقها الآلة لإثبات ما عجزت عنه الوسائل التقليديّة الملتمسة.