كثيرون يستغربون كيف تنتخب أغلبيّة من الشعب الأميركي شخصيّة مُثيرة للجدل كرجل الأعمال ​دونالد ترامب​ رئيسًا للولايات المتحدة الأميركيّة، ويُعدّدون أمثلة على تعامله بعقليّة تجاريّة وبأسلوب صفقات رجال الأعمال مع القضايا السياسيّة والعسكريّة والأمنيّة الحسّاسة في العالم، وهُم في ذلك يتناولون نصف الحقيقة فقط، حيث أنّهم يتجاهلون النتائج التي تحقّقت بفعل ذلك. وهذا الأمر مُثبت في الكثير من الأدلّة.

أوّلاً: على المُستوى الأميركي الداخلي، تراجعت نسبة البطالة في ظلّ عهد الرئيس ترامب إلى أدنى مُستوى لها منذ مطلع الألفيّة الثالثة، أي منذ نحو 18 سنة، حيث إنخفضت أخيرًا إلى ما دون أربعة في المئة لتبلغ تحديدًا 3.8 %. وبالتزامن مع نموّ حجم الوظائف للشعب الأميركي، تواصل نموّ الإقتصاد الأميركي وارتفع مُتوسّط الأجور، وشكّل قانون الإصلاح الضريبي أكبر إنجاز تشريعي لإدارة الرئيس ترامب.

ثانيًا: على المُستوى العالمي، نجح الرئيس الأميركي–عبر إستغلال أحداث منطقة الشرق الأوسط والخلافات بين ​دول الخليج​ و​إيران​، في عقد سلسلة من صفقات الأسلحة مع كل من ​السعودية​ والإمارات وسلطنة عُمان وغيرها، تشمل الطائرات والطوّافات والسفن الحربيّة وبطاريات الصواريخ الإعتراضيّة وغيرها من الأسلحة والعتاد، الأمر الذي أمّن مئات مليارات الدولار لشركات إنتاج الأسلحة في ​الولايات المتحدة​ الأميركيّة، وذلك عبر عُقود طويلة الأجل تؤمّن سنوات طويلة من العمل.

ثالثًا: بالنسبة إلى إيران، وإذا كانت تهديدات الرئيس الأميركي ضد ​طهران​ هي للإستهلاك الإعلامي لا غير، فإنّ ضرب إيران بشراسة من جانب الولايات المتحدة الأميركيّة يتمّ عمليًا عن طريق الحرب الإقتصاديّة والمالية والمعنوية. فالعُقوبات التي أعادت الإدارة الأميركيّة فرضها على إيران، أدّت إلى إنهيار كبير وسريع لقيمة العملة الإيرانية، حيث فقد الريال الإيراني أكثر من نصف قيمته خلال أربعة أشهر فقط، حيث تراجعت قيمة صرفه من 50 ألف ريال لكل دولار أميركي في نهاية آذار الماضي إلى 110 ألف ريال يوم أمس الأحد، على الرغم من تعهّد القيادات الإيرانية بمواجهة الحرب الإقتصاديّة الأميركيّة، وإتخاذ طهران إجراءات عدّة، منها على سبيل المثال تغيير رئيس المصرف المركزي في طهران. ومن الضروري الإشارة إلى أنّ العُقوبات الأميركيّة الأكثر حدّة ستبدأ تصاعديًا إعتبارًا من السابع من آب المقبل، وتتصاعد تدريجًا حتى تشرين الثاني المقبل، ما يعني أنّ العملة الإيرانيّة مُرشّحة لمزيد من التراجعأمام الدولار الأميركي، مع كل النتائج المُدمّرة على دخل الشعب الإيراني وعلى قيمة الريال الشرائيّة.

رابعًا: بالنسبة إلى القوى والجماعات التي تدور في الفلك الإيراني، فإنّ حرب إدارة الرئيس ترامب مفتوحة عليها أيضًا، وإذا كانت العُقوبات التي فرضتها واشنطن على شخصيّات سياسية وأمنيّة تنتمي إلى "حزب الله" هي معنويّة ولا قيمة فعليّة لها، فإنّ العقوبات التي فرضتها على شخصيّات إقتصادية وشركات تدور في فلك "الحزب" سياسيًا، أو مُقرّبة منه بشكل أو بآخر بالحدّ الأدنى، تركت آثارًا مُؤذية على جزء من مصادر تمويله، وضربت أعمال العديد من رجال الأعمال الشيعة والشركات المَملوكة من قبلهم. وهذا المسار لن يتوقّف في المُستقبل القريب، بل هو مُرشّح للتصاعد، لأنّه الوسيلة الأسهل والأقلّ ضررًا للولايات المتحدة الأميركية، لكنّها الأكثر تسبّبًا بالأذى لخُصومها ولأعدائها.

خامسًا: إنّ علاقات الولايات المتحدة الأميركية السياسيّة مع كل الدول الأوروبيّة والصين وروسيا، باتت مُرتبطة في جانب كبير منها بالعلاقات الإقتصادية والتجاريّة، حيث أنّها تتحسّن وتسوء تبعًا لمعايير إقتصادية بحت. ومن بين الأمثلة الثانويّة من حيث الشكل لكن المُعبّرة من حيث المضمون، تهديد الولايات المتحدة الأميركية بفرض عُقوبات إقتصاديّة قاسية على تركيا إذا لم تُبادر إلى إطلاق القُسّ الأميركي أندرو برانسون(1)، حيث باتت الإدارة الأميركيّة تتخذ من أصغر قضيّة لفرض عُقوبات إقتصادية مُوجعة، لحمل الجهات المعنيّة على الرُضوخ إلى مطالبها.

في الخلاصة، إنّ سياسة "الحرب الإقتصاديّة"–إذا جاز التعبير، التي تنتهجها إدارة الرئيس ترامب مُرشّحة للإستمرار طوال عهده، ليس ضُد جهات في الشرق الأوسط والمنطقة، وإنّما على مُستوى العالم أجمع. ومن المتوقّع أن تتصاعد هذه السياسة ضُد إيران و"حزب الله" في الأسابيع والأشهر القليلة المُقبلة، مع كل ما سيُسبّبه هذا الأمر من حال عدم إستقرار ومن توتّر في المنطقة بكاملها، بحيث سيكون من الصعب على لبنان تجنّب إرتدادات هذه "الحرب الإقتصاديّة".

(1) كان يُشرف على كنيسة بروتستانتيّة في مدينة إزمير المُطلّة على بحر إيجه، وهو سُجن بتهمة الإرهاب ثم وُضع قيد الإقامة الجبريّة حاليًا.