فيما كان منتظراً أن يحطّ وزير الخارجية في حكومة ​تصريف الأعمال​ ​جبران باسيل​ في وادي جميل للقاء رئيس ​الحكومة​ المكلف ​سعد الحريري​، تتمّة للقاء "الإيجابي" الذي عقد بين الأخير ورئيس الجمهورية ​ميشال عون​ الأسبوع الماضي، كانت وجهة رئيس "​التيار الوطني الحر​" ​عين التينة​، حيث خرج من اللقاء "الحدث" مع رئيس ​المجلس النيابي​ ​نبيه بري​ متحدّثاً عن "فنّ اللقاء واستراتيجيات الصراع".

ولأنّها ليست المرّة الأولى التي يخالف فيها باسيل التوقّعات المنبعثة أصلاً من ​القصر الجمهوري​، فهو لم يلتقِ الحريري بعد "تعويلٍ" على اللقاء، تماماً كما أنّه لم يلتقِ سابقاً رئيس حزب "القوات اللبنانية" ​سمير جعجع​ رغم التأسيس لاجتماع من هذا النوع في ​قصر بعبدا​، فإنّ علامات استفهامٍ تُطرَح من طراز، لماذا لا يعتمد باسيل "فنّ اللقاء" لحلّ العقد الحكوميّة المستعصية؟ وأبعد من ذلك، هل من يسعى لوضع باسيل في مواجهة عون؟!.

وجهاً لوجه...

يذكر اللبنانيون جيّداً "المبادرة" التي أطلقها رئيس الجمهورية ميشال عون قبل فترة، حين فتح أبواب قصر بعبدا لـ"رموز" العقد الحكوميّة، وتحديداً لرئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع، ورئيس "​الحزب التقدمي الاشتراكي​" ​وليد جنبلاط​. وإذا كانت مفاعيل اللقاء مع الثاني انتهت سريعاً، فإنّ الأول لم يتردّد في اعتبار اللقاء أكثر من "إيجابيّ"، فيما ذهبت العديد من الأوساط إلى القولإنّ "ثمراته" تنتظر لقاءً مع الوزير جبران باسيل، وهو لقاءٌ لم يحدث حتى الآن، للمفارقة.

الأسبوع الماضي، تكرّر السيناريو نفسه، هذه المرّة مع رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري. تولّى الأخير بنفسه مهمّة ضخّ الإيجابيّات بعد لقائه الرئيس عون في قصر بعبدا، بل ذهب لحدّ القول بأنّه "متفائل أكثر من أيّ وقتٍ مضى"، وهو ما عزته أوساطه ومصادره إلى "مرونة وليونة" لمسها لدى رئيس الجمهورية، لحلّ جميع العقد أو معظمها. هنا أيضاً، كانَ التعويل على لقاء بين الحريري وباسيل بعد عودة الأخير من زيارته إلى ​الولايات المتحدة​. وعلى الرغم من أنّ هذه العودة تحققت منذ أيام، إلا أنّ اللقاء لم يحصل.

ليس هذا فحسب، بل إنّ الأمور عادت إلى المربع الأول بقدرة قادر، وذهب كلّ ما حُكي عن حلحلةٍ وتسهيلاتٍ أدراج الرياح، من جديد، من دون أن يفهم أحد كالعادة الأسباب الكامنة لا خلف موجة التفاؤل المباغتة، ولا خلف انهيارها غير المبرّر. ولعلّ ما زاد الطين بلّة هو الحديث الذي سرى خلال الساعات الماضية عن دفعٍ "عوني" نحو حكومة أكثرية بعد الفشل في التوافق، وهو اقتراحٌ كان من البديهيّ والمتوقع أن يصطدم بـ "فيتو" الحريري الذي سارع إلى رفضه شكلاً ومضموناً.

وإذا كان ظاهر الأمور يوحي بأنّ هناك مسعى جدياً لتثبيت معادلة "عون يسهّل وباسيل يعرقل"، ما يطرح علامات استفهام عن سبب وقوف الرجلين "وجهاً لوجه"، وصولاً حتى حديث البعض عن "تبادل أدوار" بينهما يشبه إلى حدّ بعيد ذلك الذي كان يُتَّهَم بممارسته كلّ من الحريري ورئيس "​كتلة المستقبل​" سابقاً ​فؤاد السنيورة​، فإنّ باطن الأمور، أقلّه عند المقرّبين من الرجلين، يؤكد أنّ هناك "غرفة عمليات" تسعى لتصوير ذلك، في حين أنّ المشكلة في مكان آخر تماماً.

أين المشكلة؟

برأي الدائرين في فلك "التيار الوطني الحر"، فإنّ رئيس الجمهورية يقوم بكلّ ما بوسعه لحلّ العقد الحكوميّة، باعتبار أنّ التأخير في تشكيلها هو إضعافٌ واستهدافٌ للعهد الذي يريده أن يكون نموذجاً يحتذى في العهود اللاحقة، لا استكمالاً للعهود التي سبقته والعقلية التي أديرت من خلالها، وهم يعتبرون أنّ طرح حكومة الأكثرية الذي نُسِب إلى زوار عون، والذي قد يكون الهدف منه دفع المعرقلين إلى خفض سقف مطالبهم، ليس إلا، يندرج أيضاً في هذا السياق، باعتبار أنّ المطلوب تشكيل حكومة، لبدء العمل الجدّي الذي يصبو إليه الجميع، خصوصاً أنّ البلد لا يحتمل المزيد من المماطلة والتسويف.

في المقابل، وفيما يحاول البعض وضع الوزير جبران باسيل في "قفص الاتهام"، على اعتبار أنّ جميع العقد مرتبطة به مباشرةً، من ​المسيحية​ إلى الدرزية، وهو ما قد يحمل الكثير من الصواب، على اعتبار أنّ النائب ​طلال أرسلان​ مثلاً يتسلّح بتحالفه مع باسيل أو "أخيه جبران" كما يسمّيه، للتمسّك بمطالبه، فضلاً عن كون الكتلة الرباعية التي "استُحدِثت" له مؤلفة من ثلاثة نواب "عونيين"، يرفض باسيل ذلك، ويرمي الكرة في ملعب رئيس الحكومة المكلف، انطلاقاً من أنّ الأخير هو المفوّض ​تشكيل الحكومة​، فيما باسيل هو رئيس تكتل نيابي يقتصر دوره على المطالبة بالحصّة المفترضة لتكتله الذي يجب أن يمثَّل في الحكومة، وفقاً لحجمه الذي أفرزته ​الانتخابات​، ما يعني أنّ حلّ العقد يفترض أن يكون مسؤولية غيره.

وإذا كان باسيل حرص انطلاقاً من ذلك على عدم لقاء الحريري طالما أن أيّ "جديد" لم يطرأ، وحتى لا يُحمَّل المسؤولية بعد "إيهام" الرأي العام بأنّ الأمور باتت "ناضجة" وهي ليست كذلك، فإنّ اللقاء مع بري، والذي حرص على توصيفه بـ "الفن"، حمل بين طيّاته في المقابل، العديد من الرسائل والدلالات، التي لا تقف عند دفعه نحو "التشريع" في ظلّ التأخير في تشكيل الحكومة، بل تصل لحدّ رسم معادلاتٍ جديدةٍ مرتبطة بما يعتبره كثيرون، جوهر المشكلة الحكومية، المرتبطة بالسياسات التي ستتبعها، خصوصاً في ما يتعلق بالعلاقة مع ​سوريا​.

"فن اللقاء"

خرج الوزير جبران باسيل من لقائه مع رئيس المجلس النيابي، بتغليبه "فن اللقاء" على "استراتيجيات الصراع"، بعد مرحلة "كسر جليد" بين الجانبين، أعقبت "تشنّجاً" كاد يأخذ البلاد إلى ما لا تُحمَد عقباه.

في المقابل، يعتبر خصوم باسيل أنّ الرجل لا يزال يغلّب "استراتيجيات الصراع" على "فن اللقاء" في مقاربة مسألة تأليف الحكومة، فهو رفض لقاء رئيس حزب "القوات اللبنانية" ورئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي"، بل إنّه بات حتى "يتجنّب" إلى حدٍ ما لقاء رئيس الحكومة المكلف.

ومع أنّ رفض باسيل نابعٌ من محاولة إبعاده "كرة المسؤولية" عن نفسه، خصوصاً في ضوء المحاولات "غير البريئة" لتصويره "معرقلاً" في مواجهة "تسهيلات" رئيس الجمهورية، وهما المصنّفان في خانةٍ واحدةٍ، فإنّ كلّ ذلك لا يؤدي سوى إلى خلاصةٍ واحدةٍ: الحكومة لا تزال تراوح نفسها، والكلّ يراوغ ويماطل، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا...