بين بيانَي كتلة "المستقبل" برئاسة رئيس الحكومة المكلف ​سعد الحريري​، وتكتل "​لبنان القوي​" برئاسة وزير الخارجية في حكومة تصريف الأعمال ​جبران باسيل​ يوم الثلاثاء، مفارقة أكثر من لافتة، تتخطى الفارق النوعيّ في اللهجة والمقاربة، لتصل إلى المضمون، وتؤكد كلّ ما يُحكى عن "افتراقٍ"، ولو مؤقت، بين "شريكي العهد".

في الأول، كان حرصٌ لافتٌ من كتلة "المستقبل" على تهدئة الأمور، بل على التقليل من حجم أزمة تأليف الحكومة، وتكرار مفردات "التوافق" و"التواصل" و"التشاور" التي يئس اللبنانيون من كثرة سماعها منذ تكليف الحريري حتى اليوم. أما في الثاني، فكان ميلٌ نحو "التصعيد"، رفع خلاله الوزير باسيل السقف بوضوحٍ، تارةً عبر الغمز من قناة "اعتقال سياسي"، وطوراً عبر رفض ولادة "أيّ حكومة".

كتلة "المستقبل" حرصت على القول في بيان إنّ "صبر الحريري لن ينفد"، فيما أوحى باسيل بأنّ "صبره" هو من سينفد، إن لم يكن قد نفد أصلاً، هو الذي قال منذ منتصف تموز الماضي إنّ "صبره بدأ ينفد"، وإنّ "مهلة تأليف الحكومة بدأت تنتهي". فإلى أين تتّجه الأمور وسط كلّ ذلك؟.

ما خلف الهدوء

بدا بيان كتلة "المستقبل" الأخير هادئاً أكثر من اللزوم. كلّ ما فيه أوحى وكأنّ رئيس الحكومة المكلّف مرتاحٌ رغم كلّ التعقيدات التي تصطدم بها عملية تأليف الحكومة، والتي لم يعد خافياً على أحد أنّها لا تزال تراوح مكانها منذ اليوم الأول من التكليف من دون أيّ تقدّم يُذكَر.

جدّدت الكتلة الآراء والمواقف نفسها التي تجاهر بها منذ اليوم الأول، وعنوانها أنّ التوافق الداخلي سبيلٌ وحيدٌ لتأليف الحكومة. لم تمتعض من الكلام المتكرّر عن رمي الكرة في ملعب الحريري، باعتبار أنّ الكرة في ملعبه أصلاً، وفقاً للأصول والدستور، ولمبادئ ​اتفاق الطائف​ التي يتمسّك بها، كما قالت.

لم يقتصر "الهدوء الداخلي" الذي أوحى به بيان "​كتلة المستقبل​" عليها. في اليوم نفسه، خرج الحريري ببيان صحافيّ حرص خلاله على نفي أيّ دور للعامل الخارجي، وتحديداً السعوديّ، في عمليّة التأليف رداً على بعض المقالات الصحافيّة، وبمواقف أطلقها خلال "دردشته الأسبوعية" مع الإعلاميين، برّأ فيها "خصمه الأول"، أي "​حزب الله​" من تهمة التعطيل، قائلاً إنّه يتواصل معه، وإنّه، مثل الجميع، يريد حكومة.

وإذا كان "هدوء" الحريري يحمل بين طيّاته "غموضاً بنّاءً"، خصوصاً أنّ التأخير الحاصل في تأليف الحكومة بدأ يدخل مرحلة الخطر، ولو عاند ورفض الإقرار بذلك، فإنّ ثمّة من يخشى من "شيء ما" قد لا يرتقي إلى مستوى "العاصفة"، خلف هذا "الهدوء"، ولعلّه بالتحديد ما اختصرته عبارة "الصبر الذي لن ينفد" التي وردت في بيان الكتلة "الزرقاء". ولعلّ النقطة الجوهرية هنا أنّ التقاطع بين هذه العبارة وعبارة سابقة للوزير جبران باسيل لا يمكن أن يكون "محض صدفة" بأيّ شكلٍ من الأشكال، خصوصاً أنّ "لا صدف" في السياسة.

وما يعزّز من هذه "الفرضيّة" عملياً هو أنّ "الافتراق" بين الحريري وباسيل، ولو برّره رئيس الحكومة المكلّف بعدم وجود "جديد" يتطلّب تواصلاً، وأنّه يعرف مواقفه، بات أكثر من واضح، بل إنّ الحريري ضمّن مواقفه الأخيرة، ردوداً مباشرة وغير مباشرة على باسيل، و​الرئيس ميشال عون​، من خلف السطور، كقوله إنّ "أحداً لا يحيله إلى أحد" رداً على إحالته من جانب عون إلى باسيل، أو دحضه ما يكرّره عون وباسيل عن وجود "محاولات لتطويق العهد".

للصبر حدود؟!

​​​​​​​في مقابل "الهدوء الغامض" لرئيس الحكومة المكلّف وما يمكن وصفها بـ"الرسائل المشفّرة" خلفه، رفع رئيس "​التيار الوطني الحر​" الوزير جبران باسيل السقف عالياً في وجه معرقلي عملية تأليف الحكومة، وفي وجه الحريري تحديداً قبل غيره.

وإذا كان كلام باسيل عن أنّه "لن يقبل بأيّ حكومة"، وانّ المطلوب "حكومة منتجة وقائمة على عدالة التمثيل وعدم وجود استنسابية أو مزاجية عند أي جهة سياسية"، بات مكرّراً أيضاً، تماماً كعبارة "التوافق" ومفرداتها، فإنّ "الجديد" الذي حمله باسيل كان تلويحه بما وصفها "عملية سياسية دبلوماسية شعبية لفك أسر لبنان من الاعتقال السياسي الذي نحن فيه"، وهي عبارة تحمل ما تحمل من الدلالات السياسية، بل تعيد إلى الأذهان مرحلة استقالة الحريري من ​السعودية​ العام الماضي، وهي المرحلة التي يصفها فريق باسيل بـ"الاعتقال السياسي" أيضاً.

في قاموس باسيل، ومن خلفه رئيس الجمهورية، انّ المطلوب أن يفعل رئيس الحكومة المكلف شيئاً ما، بدل الانتظار والتفرّج، والاكتفاء بالمجاهرة بين الفينة والأخرى بأنّه رئيس الحكومة المكلّف، وبأنه بالتالي المعنيّ بتأليف الحكومة بالتنسيق والتعاون مع رئيس الجمهورية. ولعلّ ما يزيد من امتعاض باسيل أنّ الحريري يرفض كلّ الخيارات الأخرى التي لا بدّ من الوصول إليها إن استمرّت الأمور على حالها، من حكومة تخلط الوفاق الوطني بالأمر الواقع، على اعتبار أنّ إرضاء الجميع شبه مستحيل، وصولاً إلى حكومة الأكثرية التي لم تُطرَح إلا عندما بدأ يسود شعورٌ بأنّ الأمور جامدة في مكانها.

انطلاقاً من ذلك، الواضح أنّ باسيل الذي قال سابقاً إنّ "صبره بدأ ينفد" لم يعد قادراً على "استيعاب" ما يعتبره "تعطيلاً ممنهجاً" لتأليف الحكومة، وهو بدأ يشتمّ "عاملاً خارجياً" يمنع التأليف عملياً، ولو أصرّ الحريري على نكرانه، ولذلك بالتحديد تحدّث عن "اعتقال سياسي"، خصوصاً أنّ المعرقلين هم أنفسهم من وقفوا في المحور المعاكس له إبان مرحلة استقالة الحريري، مع بعض التعديلات التي فرضتها التموضعات الجديدة، خصوصاً بالنسبة لرئيس "​الحزب التقدمي الاشتراكي​" وليد جنبلاط.

برأي باسيل وفريقه، إذا كان الجميع يريدون حكومة كما يقول الحريري نفسه، وإذا كان الجميع مستعدين لتقديم التسهيلات كما يقولون، فما الذي يمنع تشكيلها اليوم قبل الغد؟ ولماذا لا يحزم رئيس الحكومة المكلف أمره فيفرض الصيغة الحكومية المطلوبة على الجميع؟ وهل ينتظر عصا سحرية تحمل له حكومة تلبّي مطالب أو بالأحرى مطامع الجميع بكل بساطة، وهو ما لن يحصل؟.

انقلاب على الديمقراطية

بين صبر الحريري الذي لن ينفد، وصبر باسيل الذي يبدو وكأنّه نفد، يبدو واضحاً أنّ المسألة الحكوميّة لا تزال تراوح مكانها لغايةٍ في نفس يعقوب.

قد يكون من المبالغة بمكان تشبيه أزمة تأليف الحكومة بأزمة استقالة الحريري في وقتٍ سابق، وقد لا يكون صحيحاً أنّ العرقلة خارجيّة باعتبار أنّ العقد الظاهرة داخلية، وإن كان البعض في لبنان يراهن على الخارج لحلّها، وفقاً لما درجت عليه العادة، ولكنّ الأكيد أنّ هناك خللاً ما، والمطلوب من الجميع أن يبادر لحلّه.

وإذا كان تكتل "لبنان القوي" مطالَب بتقديم التنازلات، ومتهَم من كثيرين بأنّه بين المعرقلين، باعتبار أنّ كلّ العُقَد مرتبطة به عملياً، فإنّ ثمّة فيه من يمتعض من هذا الحديث، متسائلاً عمّا إذا كان المطلوب أن ينتقل التكتل الأكبر إلى صفوف المعارضة كرمى لعيون الأقلية، وفق طرح نائب رئيس المجلس النيابي ​إيلي الفرزلي​، مع ما يشكّله ذلك من انقلابٍ على كل مفاهيم ومعايير الديمقراطية؟!.