فجأة ومن دون سابق إنذار، شهدت مفاوضات تأليف الحكومة حراكاً متجدّداً خلال الساعات الماضية، كانت افتقدته على مدى أسابيع، من خلال اللقاءين اللذين جمعا رئيس الحكومة المكلف ​سعد الحريري​ بكل من رئيس المجلس النيابي ​نبيه بري​ ورئيس تكتل "لبنان القوي" وزير الخارجية في حكومة تصريف الأعمال ​جبران باسيل​، وسط توقعاتٍ بلقاءٍ يجمعه مع رئيس الجمهورية ​ميشال عون​ قريباً.

ومع أنّ "في الحركة بركة" كما هو معروف، ولو أنّ التشكيك بموجات التفاؤل يجب أن يتفوّق على التسليم بها نظراً للتجارب السابقة، فإنّ كلّ هذا الحراك المستجدّ لم يحجب الأضواء عن التلويح باللجوء إلى الشارع الذي فُهِم من تصريح الوزير باسيل الأخير حول "العملية الدبلوماسية الشعبية لفكّ أسر لبنان من الاعتقال السياسي"، ما أعاد إلى الأذهان تجارب ومراحل سابقة.

وإذا كان الحريري لم يُبدِ "ممانعة" لهذا الخيار، في حال اتخاذه من أيّ فريق، فإنّ علامات استفهامٍ بالجملة تُطرَح، إذ ما الفائدة من الذهاب إلى الشارع في هذه المرحلة، ومن قِبَل فريق العهد تحديداً؟ وهل هناك من يعتقد أنّ الحكومة يمكن أن تؤلَّف تحت ضغط الشارع؟!.

ضغط جدّي

لم يكن من الصعب أن يشتمّ المعنيّون رائحة "تلويح بالشارع" من تصريح الوزير جبران باسيل الأخير حول "فكّ أسر لبنان من الاعتقال السياسي"، فالرجل كان واضحاً بحديثه عن "عملية دبلوماسية شعبيّة" على هذا الخط، وتعبير "شعبية" في هذا السياق لا يحتمل التسويف.

أكثر من ذلك، هي ليست المرّة الأولى التي يلوّح أو يلجأ فيها بالفعل فريق باسيل تحديداً، أي "​التيار الوطني الحر​"، إلى الشارع في قضايا واستحقاقات دستورية وغير دستورية. سبق أن فعل ذلك في مرحلة الفراغ الرئاسي التي استمرّت سنتين ونصف قبل انتخاب مؤسس "التيار" العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية. ومع أنّ أمراً جوهرياً اختلف اليوم باعتبار أنّ "التيار" أصبح هو يمثّل "السلطة" رسمياً بشكلٍ أو بآخر، فإنّ اللبنانيين يذكرون أيضاً أنّه لجأ إلى الشارع أكثر من مرّة في ظلّ حكوماتٍ لم يكن يشكّل أقلية فيها، كما فعل يوم أراد الضغط على الحكومة من أجل السير بالتعيينات وإقرارها.

وتماماً كما أنّ "الضغط" كان الهدف من التحركات "الشعبية" السابقة، فإنّه يشكّل عنوان التلويح بالشارع اليوم، خصوصاً أنّ امتعاض "التيار" من وضع مفاوضات تأليف الحكومة، أقلّه قبل اللقاء الأخير بين الحريري وباسيل، لم يعد خافياً على أحد، وبالتالي فهو يسعى لإحداث "صدمة" ما، خصوصاً أنّ الأمور لم تعد تحتمل المزيد من التأخير والمماطلة. ولعلّه ليس خافياً على أحد أيضاً، أنّ "التيار" الذي سبق أن حقّق الكثير من مطالبه من دون أن يتراجع عنها، بحصانة الشارع المساند له أولاً، و​الانتخابات الرئاسية​ خير برهان، ليس مستعداً لتقديم التنازلات، بعدما أصبحت السلطة بين يديه، خصوصاً أنّه يريد بسط نفوذه في الحكومة المقبلة ليتمكّن فعلاً من تحقيق ما يصبو إليه من مشاريع، من دون أن يصطدم بفيتو من أيّ من "شركائه" الراغبين بالتشويش عليه.

التلويح سيبقى تلويحاً؟!

"كل واحد له رأيه وهو حرّ أن يقوم بما يريده، وإذا كان يرى انّ تحريك الشارع هو الحلّ فليكن". بهذه العبارات، ردّ رئيس الحكومة المكلّف على ما يُحكى عن نوايا لتحريك الشارع، رفضاً للمماطلة الحاصلة في تأليف الحكومة، بعد مرور نحو ثلاثة أشهر على التكليف، فيما العقد لا تزال تراوح مكانها، من دون رصد تقدّم جدّي، يتخطى موجات التفاؤل التي ترتفع أسهمها بين الفينة والأخرى من دون سابق إنذار، ثمّ تنهار بالطريقة نفسها.

لكن، وعلى الرغم من كلّ ذلك، يعتقد كثيرون أنّ التلويح بالشارع هذه المرّة سيبقى بخانة التلويح، ولن يتحوّل إلى أمرٍ واقعٍ، حتى لو انهارت موجة التفاؤل المستجدّة التي قد تذهب مع الريح تماماً كسابقاتها، وذلك لاعتباراتٍ وحساباتٍ كثيرة باتت مختلفة عن السابق، فضلاً عن قناعة المعنيّين بأنّ التلويح بالشارع كافٍ لتحقيق الضغط المطلوب. ولعلّ الاعتبار الأول الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو أنّ "التيار" ليس بوارد تسجيل "سابقة" بتحويل نفسه إلى "السلطة" و"المعارضة" في آن، إذ إنه لن يكون مشهداً مألوفاً أن يتظاهر الحكم في أيّ بلدٍ من البلدان على خلفية مطلبٍ هو معنيّ به. وحتى لو كان للبنان حيثيته الخاصة، فإنّ الأمر سيوحي بـ "ضعف" معيّن لدى أركان الحكم، فضلاً عن أنّ الأمر قد يثير حساسيّة الطرف السنّي، وتحديداً "​تيار المستقبل​"، على اعتبار أنّ رئيس الحكومة المكلّف هو المعنيّ ب​تشكيل الحكومة​ بالتشاور مع رئيس الجمهورية، وبالتالي فإنّ تظاهر فريق الرئيس سيوحي وكأنّ العرقلة تأتي من الحريري، وليس من أيّ طرفٍ آخر.

ومع أهمية هذا الاعتبار، إلا أنّ "التيار" يمكن أن يقفز عنه، لكنه سيصطدم بمجموعة من الحسابات الأخرى التي لا تقلّ حساسيّة بل خطورة، وأولها أنّ لكلّ طرف في لبنان شارعه، ما يعني عملياً أنّ كلّ شارع مقابله شارع آخر. فتماماً كما أنّ "التيار الوطني الحر" يمتلك شارعاً شعبياً مسانداً له، فإنّ القوى الأخرى لديها أيضاً شارعها، وبالتالي قد تعمد إلى تحريكه خصوصاً إذا ما شعرت بـ"الاستفزاز"، والمقصود هنا تحديداً القوى التي قد يُشار إليها بالإصبع في المسؤولية عن عرقلة تأليف الحكومة، من فريق رئيس الحكومة المكلف، إلى "​القوات اللبنانية​" و"​الحزب التقدمي الاشتراكي​"، ولهذه القوى حجمها السياسي والشعبي غير البسيط، وهو ما أثبتته ​الانتخابات النيابية​ الأخيرة.

وإذا كان الأكيد أنّ أحداً في لبنان لا يرغب بالعودة إلى "لعبة الشارع" التي سبق أن اختبرها وعاش ويلاتها منذ العام 2005 بعيد اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، فإنّ الواضح أنّ حلفاء "التيار الوطني الحر" نفسهم لن يكونوا إلى جانبه في لعبة التلويح بالشارع، وفي مقدّمة هؤلاء "​حزب الله​"، الذي عبّرت كتلة "الوفاء للمقاومة" عن موقفه بوضوح في بيانها الأخير، حين حذرت من "مخاطر وتداعيات بالغة السلبية" نتيجة "مفاقمة الاحتقان والانزلاق نحو التوتر والاحتكام خارج المؤسسات".

الحل ليس بالشارع

صحيحٌ أنّ الأزمة الحكومية بدأت تتخطى ما يُعرَف بـ"مهلة السماح" أو ربما تخطتها، وصحيحٌ أنّ البلاد لم تعد تحتمل المزيد من التأخير، في ظلّ التدهور الحاصل على كلّ المستويات، وخصوصاً على المستوى الاقتصادي، في ضوء وجود الكثير من المشاريع "العالقة" التي تنتظر تأليف الحكومة الجديدة لوضعها حيّز التنفيذ.

لكنّ الصحيح أيضاً أنّ الحلّ ليس بالشارع بقدر ما هو بالحوار الجاد والمسؤول بين مختلف القوى السياسية، والحوار المحرّر من أيّ "خطوط حمراء" بل المفتوح على تنازلاتٍ من الجميع. أما الشارع، فالأكيد أنّ اللجوء إليه قد يفاقم الأمور سوءاً، ويفتح البلاد أمام احتمالاتٍ وسيناريوهات ليس الوقت ملائماً لها على الإطلاق...