حرّك اللقاءان اللذان عقدهما رئيس الحكومة المكلف ​سعد الحريري​ الخميس الماضي مع كل من رئيس المجلس النيابي ​نبيه بري​ ورئيس "​التيار الوطني الحر​" وزير الخارجية في حكومة تصريف الأعمال ​جبران باسيل​، "الجمود" المسيطر على عملية تأليف الحكومة، فعاد الزخم إلى المفاوضات، ومعه عادت الطروحات والمقايضات لتجد طريقها إلى الحلبة السياسية.

إلا أنّ كلّ الإيجابيات التي رُصِدت على خطّ التأليف لم ترتقِ على ما توحي المعطيات لمستوى تصاعد الدخان الأبيض من قصر بعبدا، منبئاً بولادة الحكومة. وإذا كانت "العقدة الدرزية" تراوح مكانها كما أوحت تصريحات الساعات الماضية، بانتظار أن يدوّر بري زواياها، فإنّ مصير "العقدة المسيحية" لا يزال غامضاً.

المعلومات المتوافرة تشير إلى أنّ "القوات" قدّمت "تنازلاً"، تخلّت بموجبه عن مطلبها الحصول على خمس وزارات، مكتفية بأربع، إلا أنّه تنازل "مشروط" بالحصول على حقيبة "سيادية"، شرطٌ يخشى كثيرون أن يؤسّس لولادة "عقدة جديدة"، تبدو مقوّماتها أكثر من متوافرة...

لا مكان لـ"القوات"

تقول "القوات" للمعنيّين بتأليف الحكومة إنّها تقدّم أقصى التسهيلات الممكنة لرئيس الحكومة المكلف لتسهيل مهمّته، ولإنجاز حكومة الوحدة الوطنية في أسرع وقتٍ ممكن. يشير قياديّوها إلى أنّها الوحيدة ربما بين الأفرقاء التي كان موقفها مرناً، بل تغيّر منذ اليوم الأول. في البداية، طالبت بالمناصفة مع "التيار الوطني الحر" تطبيقاً لاتفاق معراب، وذهبت لحدّ رفض الفصل بين حصّة "التيار" وحصّة رئيس الجمهورية، إلا أنّها تخلّت عن المطلبَيْن بعدما رصدت رفضاً "عونياً" لهما.

بعد ذلك، تخلّت "القوات" عن مطلب نيابة رئاسة الحكومة، رغم أنّها تعتبر نفسها "الأحقّ" به انطلاقاً من التوزيع "العادل" للمراكز والمواقع الذي نصّ عليه اتفاق معراب أيضاً بعدما ذهبت نيابة رئاسة المجلس النيابي إلى تكتل "​لبنان القوي​". اليوم، يقول "القواتيون" إنّهم يقدّمون تنازلاً جديداً يخفضون من خلال سقف مطالبهم، ليصبح أربع وزارات فقط، لكن بينها حقيبة سيادية.

وإذا كانت "القوات" توحي أنّ مطلبها الجديد بسيطٌ وسهلٌ، فإنّ مؤشرات كثيرة توحي أنّه قد لا يكون سوى "عقدة جديدة" تُضاف إلى العقد السابقة، أو في أحسن الأحوال، يأتي "بدلاً عن ضائع" على خط "العقدة المسيحية" نفسها. ولعلّ المشكلة الأساسية على هذا الصعيد، تكمن في أن لا مكان لـ"القوات" في الحقائب السيادية التي يقول البعض إنها محجوزة مسبقاً لكل من رئيس الجمهورية (الدفاع) و"التيار الوطني الحر" (الخارجية) و"​حركة أمل​" (المال) و"​تيار المستقبل​" (الداخلية).

وإذا كان "التيار" يقول إنه لا يعارض حصول "القوات" على حقيبة سيادية لكن ليس على حسابهومن حصّته، هو الذي سبق أن أعلن تمسّكه بحقيبة الخارجية، تماماً كما يرفض المسّ بحقيبة الدفاع التي منحها العرف لرئيس الجمهورية، فإنّ ذلك يطرح إشكالية حقيقية، نظراً للتوزيع الطائفي للحقائب السيادية الأربع، ما يمنع الحريري مثلاً من التضحية من كيسه فيما لو أراد التسهيل، علماً أنّ الشيعة ليسوا مستعدين أيضاً لذلك، هم الذين سبق أن خاضوا معركة على ​وزارة المال​، وكسبوها ضمنياً قبل أن تبدأ المفاوضات أصلاً على الحصص والحقائب.

من "التيار" إلى "​حزب الله​"؟!

هكذا، توحي الصورة أنّ الكرة في ملعب "التيار" ورئيس الجمهورية، ولو حاول الجانبان رميها في ملعب غيرهما. ​الرئيس ميشال عون​ قال لوزير الإعلام ​ملحم الرياشي​ حين التقاه قبل فترة في قصر بعبدا، إنّ "مسألة الحقيبة السيادية تُبحَث مع رئيس الحكومة المكلف". أما الوزير جبران باسيل، فيصرّ على أنّه لا يعارض حصول "القوات" على أيّ حقيبة تشاء، شرط ألا تكون من حصّته.

يرى كثيرون أنّ التسهيل الظاهريّ الذي يوحي به باسيل ليس عملياً، وقصة "الحقيبة السيادية" خير دليلٍ على ذلك، إذ كيف يمكن لـ"القوات" أن تحصل على حقيبة سيادية، فيما هو يتمسّك بحصّته وبحصّة رئيس الجمهورية، والمعروف أنّ الحقائب السيادية أربع فقط، موزّعة مناصفةً بين المسلمين والمسيحيين؟.

هنا، يعتبر "عونيون" أنّ مطالبة "القوات" بـ"حقيبة سيادية" ليس منطقياً أصلاً، إذ إنّ المنطق يفترض أن تذهب الحقائب السيادية الأربع إلى كل من رئيس الجمهورية، ورؤساء التكتلات الطائفية الأكبر مسيحياً وسنياً وشيعياً، وهو معمول به سواء في حكومة تصريف الأعمال الحالية، أو بموجب الاتفاق المبدئي على الحكومة المقبلة.

لكن، رغم ذلك، ثمّة في "التيار" من يقول انّ من الممكن تقديم "تنازل" عن إحدى الحقيبتين، الدفاع أو الخارجية، في نهاية المطاف، إلا أنّ البعض يعتبر ذلك بمثابة "اللغم الاحتيالي"، لأنّ الكرة في هذه الحال ستنتقل من "التيار" إلى "حزب الله"، الذي سيستخدم "الفيتو" في وجه حصول "القوات" على حقيبة الدفاع أو الخارجية، نظراً لحساسيّتهما المفرطة بالنسبة إليه.

ويقول العارفون في هذا الصدد إنّ حقيبة الدفاع مرتبطة مباشرة بالجيش اللبناني، وإنّ العلاقة بين الأخير و"القوات" ليست "مثالية" تاريخياً، فضلاً عن أنّ الحزب ينسّق في الكثير من الأمور مع الجيش عملاً بمعادلة "الجيش والشعب والمقاومة" التي لا يزال يطبّقها، وإن لم ترد في البيانات الوزارية بحرفيّتها، وبالتالي فإنّ وجود وزير "قواتي" على رأس وزارة الدفاع قد يعقّد الأمور.

أما وزارة الخارجية، فتشير المعطيات إلى أنّ "فيتو" الحزب عليها سيكون أكبر، انطلاقاً من أنّ من يجب أن يكون في المنصب يجب أن يكون محايداً على الأقلّ، وليس محسوباً على محورٍ محدَّد، أقلّه ليعمل بمبدأ "​النأي بالنفس​"، وإن كان ذلك لم ينطبق تاريخياً على وزراء الخارجية السابقين، الذين كانوا دائماً محسوبين على أحزاب معروفة الانتماءات والأيديولوجيات، علماً أنّ ثمّة من يعتقد أنّ "الحساسية" تزيد في ظلّ هذه الحكومة، التي يصرّ البعض على أنّها ستتولى "التطبيع" مع ​النظام السوري​ مجدّداً، من بوابة الخارجية تحديداً.

رفع السقف...

تقول "القوات" إنّ "حزب الله" لن يكون عائقاً أمام حصولها على الحقيبة السيادية، خصوصاً أنّ السياستين الدفاعية والخارجية ليستا "حكراً" على الوزير بمفرده، بل تقرّرهما الحكومة مجتمعة، فضلاً عن أنّ الوزير يفترض عليه التنسيق مع رئيسي الجمهورية والحكومة في كلّ المفاصل الأساسية.

من هنا، فإنّ "القوات" مقتنعة أن "الفيتو" ليس عند "حزب الله"، بل في مكانٍ آخر، وتحديداً عند "شريكها" الذي تنصّل من اتفاقهما، ويضع العصيّ في دواليب حصولها على الحدّ الأدنى ممّا تعتبرها حقوقاً مشروعة لها، ويرمي بكرة التعطيل عند غيره.

لكن بين هذا وذاك، ثمّة من هو مقتنع أنّ عقدة "الحقيبة السيادية" قد لا تكون سوى جزء من سياسة "رفع السقف" بالنسبة لـ"القوات" التي لن تتردّد في الموافقة على التخلي عنها مقابل الحصول على أربع حقائب "دسمة"، متى دقّت "ساعة" الحكومة فعلاً، وتوافرت الإرادة الجدية لتشكيلها، وربما الضوء الأخضر الخارجيّ...