كان الحراك السياسي الداخلي يوحي منذ ايام بقرب تأليف الحكومة، بعدما تدخّل رئيس المجلس النيابي ​نبيه بري​، وأبدى كل من التيار "الوطني الحر" و"القوات" حُسن النوايا لتذليل العقبات التي تحول دون الافراج عن التشكيلة الحكومية. لكن، فجأة أطلق رئيس الحكومة المكلف ​سعد الحريري​ موقفاً سياسياً، صوّب فيه على دمشق، وربط الولادة الحكومية ببقاء العلاقات المقطوعة معها. سرت بعدها الأسئلة عن أسباب اقدام الحريري على التعبير عن الربط: لماذا اختار الاعلان عن الموقف في الوقت الذي كانت فيه العقد الحكومية تُحل تدريجياً؟ هل قصد الحريري محاكاة ​السعودية​ التي تغضّ الطرف عن كل تصرفاته، ولا تعيره اهتماما؟ هل أراد رفع السقف السياسي خلال التفاوض الجاري للحصول على مكاسب في الحقائب؟.

كلها سيناريوهات واردة، لكن "الشيخ سعد" كان يدرك ان موقفه سيفجّر الايجابيات الداخلية، ويقود البلد من نقاش حول الحصص الى نقاش سابق لأوانه، حول السياسات الحكومية والبيان الوزاري.

يعرف الحريري ايضا، ان كل المستجدات في ​سوريا​ تطوي صفحة أزمة دمشق، وتعزز وضع الرئيس السوري ​بشار الاسد​، الذي بات موقعه افضل في الميدان والدبلوماسية والعلاقات الدولية، بعدما سرت معلومات عن تحضير دول اوروبية ملفاتها لاعادة العلاقات الدبلوماسية مع سوريا وفتح سفاراتها في دمشق.

يدرك رئيس الحكومة المكلف ايضا ان الساعة لا تعود الى الوراء، وان الاغلبية في المجلس النيابي اللبناني (​حزب الله​ و​حركة امل​ و​التيار الوطني الحر​ و​المردة​ و​الديمقراطي اللبناني​ والاحزاب التي تدور في فلك قوى ٨ آذار) تؤيد تفعيل العلاقات مع سوريا، لأسباب سياسية واقتصادية يستفيد منها لبنان، قبل ان تستفيد منها، معنوياً فقط، الدولة السورية، لكن الأقلية النيابية (القوات والمستقبل والاشتراكي) تعارض اعادة تلك العلاقات مع النظام السوري.

استبق الحريري ولادة الحكومة، ورفع شعاره عنوانا للتأليف، لكنه وضع بذلك أبرز مطبّ امام حكومته العتيدة، الى درجة ان هناك من بات يسوّق ان لا قدرة للحريري على ترؤس حكومة من دون اخذ التطورات السوريّة بعين الاعتبار، وخصوصا بعد معركة ادلب الآتية قريبا. يضيف هؤلاء انفسهم، أن الحريري قد يضطر للاعتذار عن متابعة التأليف، لأن شرط التنسيق مع سوريا هو اولوية ومصلحة لبنانية.

ولذلك، جاء رد بري اولا على الحريري، الذي دافع عن اعادة العلاقات مع سوريا الى طبيعتها. هنا بدا بري متمسكاً بتلك العلاقات اكثر من غيره، رغم أن رئيس المجلس دأب في المرحلة الماضية على امساك العصا الداخلية من وسطها، وعدم كسر فريق على حساب آخر، ومراعاة الحريري تحديدا.

لكن فيما خصّ سوريا، اعلن بري انحيازه لعلاقات طبيعية مع دمشق، فوضع نفسه في مواجهة الحريري ورئيس الحزب "التقدمي الاشتراكي" وليد جنبلاط، اللذين يعتبران بري سندا لهما. تقصّد رئيس المجلس عدم السكوت عن خطأ التوصيف، وأوحى عملياً انه مستعد لمواجهة صديقيه، لأن الأولوية لمصلحة لبنانية تنطلق من اعادة تحسين العلاقات مع سوريا، في زمن انتصارها التدريجي على ازمتها، وتسابق عواصم العالم اليها.

خسارة الحريري وجنبلاط للسند بري، يجعل الكفّة تميل كليا لغير صالحهما، ما يعني ان ازمة التأليف تعمّقت، وتحتاج الى مقاربة جديدة، لا تقتصر على الاحجام والأعداد والتوزيع الحقائبي.

لا قدرة لبنانية على بت الاختلاف بشأن سوريا، بل ان المواجهة حول دمشق، تفرض تدخل عواصم دولية، لتنظيم امر الخلاف الداخلي اللبناني.

لكن، لا توافق بعض قوى "٨ آذار" على التوصيف، وتعتبر أن الايام الآتية كفيلة بأن تخفف من اعتراض الحريري وجنبلاط، والا فالحكومة العتيدة ستكون برئاسة شخص آخر، لأن المستجدات الاقليمية أنتجت خسارة رهانات الحريري وجنبلاط وجعجع.

ولذلك، لا تستبعد تلك القوى ان يكون الحريري استشعر الأمر، وأوحى بتنفيذ قطع للطرقات ردا على كلام المحلل السياسي سالم زهران الذي تناوله في حلقة تلفزيونية، للقول أن أي تفكير بإبعاد "الشيخ سعد" عن رئاسة الحكومة سيجر تداعيات في الشارع.