فيما لا تزال العقد الظاهرية التي تحول دون تأليف الحكومة، من المسيحيّة إلى الدرزيّة مروراً بالسنيّة المغيَّبة عن التداول، تراوح مكانها منذ اليوم الأول لتكليف رئيس حكومة تصريف الأعمال ​سعد الحريري​ تأليف الحكومة الجديدة، عاد مفهوم "​النأي بالنفس​" ليتصدّر المداولات خلال الأيام القليلة الماضية، من بوابة العلاقة مع سوريا، والدور المنتظر من الحكومة الجديدة على هذا الصعيد.

ففيما يصرّ أفرقاء ما كان يسمّى بالثامن من آذار على ضرورة أن تعيد الحكومة العتيدة تنظيم العلاقة مع ​الدولة السورية​، خصوصاً في ضوء ما يُحكى عن اقتراب الحرب من نهايتها، ما يتطلب مقاربة جديدة تنطلق من المصلحة اللبنانية أولاً، يعتبر آخرون أنّ هذه المقاربة تشكّل "انقلاباً" على مفهوم "النأي بالنفس" الذي يفترض بقاء الأمور على ما هي عليه.

وإذا كان الحريري عبّر عن هذا الموقف بوضوح حين قال إنه لن يذهب إلى سوريا تحت أيّ ظرف، حتى لو كانت مصلحة لبنان تقتضي ذلك، فإنّ علامات استفهامٍ تُطرَح، إذ هل انتهى زمن "النأي بالنفس" عملياً؟ ولمصلحة من فتح السجال اليوم حول مفهومٍ متوافَقٍ عليه، فيما ولادة الحكومة لا تزال مستعصية؟.

مقاربتان متناقضتان

منذ أسابيع، بدأ الحديث عن أنّ إشكالية العلاقة مع سوريا قد تكون هي أساس الصراع على الحكومة، بعيداً عن "ترف" العقد الظاهرية التي تتمحور حول حقيبةٍ سياديّة وأخرى خدماتية، وحول مقعدٍ بالزائد أو بالناقص لهذا الفريق أو ذاك، وهي عقدٌ يمكن أن تُحَلّ بكبسة زرّ متى توافرت الإرادة الجديّة، أو متى حُلّت العقدة الحقيقية التي يتمّ التفاوض حولها خلف الكواليس، والمرتبطة بالوظيفة السياسية للحكومة العتيدة.

ولا يخفى على أحد أنّ هذه الإشكاليّة تصطدم بوجود مقاربتين متناقضتين إلى أقصى الحدود على هذا الصعيد، ربطاً بالتطورات والمتغيّرات الخارجية والإقليمية، ولو نفى المعنيّون أيّ عوامل خارجيّة في عملية تأليف الحكومة. فثمّة فريقٌ، يمثّله رئيس الجمهورية ​ميشال عون​ و"​التيار الوطني الحر​"، مع الحلفاء وفي مقدّمهم "حزب الله"، يعتبر أنّ ترتيب العلاقة مع سوريا لم يعد أمراً اختيارياً بل أصبح "إلزامياً"، ولو كان يقول في العلن إنّ "لا شروط" من هذا النوع توضَع في هذه المرحلة، وهو ما ألمح إليه الأمين العام لـ"حزب الله" ​السيد حسن نصر الله​ في خطابه الأخير، حين "لوّح" بتعديل "الشروط" إذا ما لمس أنّ هناك رهاناً لدى أيّ فريق على المتغيّرات الإقليمية التي اعتبر أنّها لصالحه، لا العكس.

بالنسبة لهذا الفريق، فإنّ مصالح لبنان العليا تقتضي مقاربة مختلفة للعلاقة مع سوريا، أولاً لحلّ أزمة ​النازحين السوريين​، التي لن يكفي التعويل على المبادرة الروسية لتكون موسكو "الوسيط" المخوّل لإنهائها، ولا حتى على المدير العام للأمن العام ​اللواء عباس إبراهيم​ لإنجاز المتطلبات اللوجستية، بل تتطلب حواراً مباشراً بين الحكومتين اللبنانية والسورية. إلا أنّ هذا الفريق يصرّ على أنّ ترتيب العلاقة بات إلزامياً لاعتباراتٍ تتخطى أزمة النازحين، لتصل إلى الوضع الاقتصادي والاجتماعي وضرورة "إنعاشه"، وهو ما يقتضي فتح قنوات اتصال مع الدولة السورية، خصوصاً في ضوء التسريبات عن إعادة فتح معبر "نصيب" في المرحلة المقبلة.

لكن، في مقابل هذه المقاربة، أخرى متناقضة تماماً يعبّر عنها رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري، مسنوداً بكلّ من "​القوات اللبنانية​" و"​الحزب التقدمي الاشتراكي​". لا يرى هؤلاء في طرح الفريق الآخر سوى "محاولة تطويق" للحريري على أعتاب تأليف الحكومة، بل "انقلاباً" على مبدأ "النأي بالنفس" الذي يعرف القاصي والداني أنّ تثبيته هو الذي أنقذ الحكومة السابقة من السقوط في المستنقع، بعد استقالة الحريري الشهيرة من الرياض، بمعزلٍ عن الظروف والملابسات التي أحاطت بها.

من يفسّر النأي بالنفس؟

وإذا كان الحريري ذهب لحدّ القول إنّ الحكومة لن تتشكّل إن كان مطلوباً منها إحياء العلاقة مع النظام السوري، فإنّه أراد تثبيت النأي اللبناني بالنفس عن الأزمة السوريّة حرصاً على لبنان أولاً، ومنعاً لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وأراد في الوقت نفسه القول إنّه تماماً كما أنّ لبنان سيكون آخر دولة يمكن أن توقّع معاهدة سلام مع العدو الإسرائيلي، فإنّه سيكون آخر دولةٍ تطبّع العلاقات مع النظام في سوريا، وبالتالي فهو لن يقدم على خطوة من هذا النوع، إلا بعد حصول إجماعٍ عربيّ عليها، إن حصل مثل هذا الإجماع أصلاً.

تقود هذه القراءة إلى اكتشاف "ثغرة" جديّة في تفسير مبدأ "النأي بالنفس"، إذ إنّ الفريقين المتصارعين اليوم، يدّعيان الحرص على المفهوم وديمومته. فالقوى الراغبة بتطبيع العلاقات مع الحكومة السورية، تعتبر أنّ ذلك يتلاءم مع مبدأ النأي بالنفس ولا يتناقض معه، إذ إنّ النأي بالنفس هو عن الحرب في سوريا، سواء لجهة المشاركة فيها، أو لجهة دعم الحكومة لفريقٍ فيها في مواجهة الفريق الآخر، ولكنّه لا يمكن أن يكون نأياً بالنفس عن المصلحة اللبنانية وما تقتضيه، خصوصاً إذا ما انتهت الحرب أو أوشكت على النهاية كما توحي معطيات هذا الفريق اليوم.

في المقابل، يتحدّث الفريق الآخر عن مشكلة "مبدئيّة" في مثل هذا التفسير لمفهوم النأي بالنفس، الذي جُمّدت العلاقة مع سوريا بموجبه، وهو يرى ترابطاً عضوياً متيناً بين النأي بالنفس عن الحرب في سوريا وعن آخر يتعلّق بالعلاقة مع سوريا بالمُطلَق في ظلّ الحرب، أيّ أنّ الأول يقود إلى الثاني حتماً. ويقول أصحاب وجهة النظر هذه، إن من غير المنطقي أن ينأى لبنان بنفسه عن الصراع في سوريا، ويفتح في الوقت نفسه علاقة طبيعية مع أحد طرفي هذه الحرب، أي النظام، بما يمكن أن يعطيه غطاءً إضافياً من الشرعية والاعتراف، علماً أنّ هؤلاء يعتبرون أنّ ما ارتكبه النظام من "جرائم" في الحرب السورية منذ سبع سنوات يتطلّب موقفاً "إنسانياً" و"أخلاقياً" بمقاطعته، قبل النقاش بأيّ مسألةٍ آنيّةٍ ومصلحيّة أخرى.

كلام بكلام

يعتبر كثيرون أنّ بدعة "النأي بالنفس" اللبنانية أصلاً هي مجرّد كلام بكلام، وهي لم تطبَّق يوماً. فها هي الحكومة اللبنانية تنأى بنفسها عن ​الأزمة السورية​، ويخوض الأفرقاء صراعاً جدلياً حول تطبيقات النأي بالنفس على العلاقة مع النظام، فيما "يبادر" وزراء محسوبون على قوى محدّدة بالذهاب من تلقاء نفسهم إلى سوريا، والمشاركة في فاعليات تنظمها الحكومة السورية، من دون تردّد.

وإذا كان "حزب الله" الذي اتُهِم ولا يزال بالانقلاب على مفهوم "النأي بالنفس" من خلال مواقفه الصريحة المناهضة لدولٍ عربية عدّة، في مقدّمها ​السعودية​، من باب الأزمة اليمنية وغيرها، يبرّر ذلك بالقول إنّ مواقفه لا تلزم الحكومة اللبنانية، فإنّ ثمّة من يسأل في المقابل عن مواقف رئيس الحكومة الصريحة أيضاً، وآخرها على سبيل المثال لا الحصر، إعلانه التضامن مع السعودية في أزمتها الدبلوماسية مع كندا، ما يثبّت من جديد مقولة أنّ "النأي بالنفس" بات شعاراً يرفعه الجميع، ويعملون بعكسه في الآن نفسه...