بصرف النظر عن المناكفات الحزبية و​الطائف​ية والمذهبية وتهافت "الأقوياء" ورؤساء الأحزاب وتناتشهم على الوزارات السيادية والخدماتية في تسميات تجعل ​لبنان​ البلد الوحيد في الدنيا في رفع لواءات ​السرقات​ و​الفساد​ وكأنّ لاشعب فيه،

وبصرف النظر من الأزمات الإقتصادية والنقدية والتدخّلات الخارجية الظاهرة والمستترة وحشر الوطن في زاوية/نافذة تأليف ​الحكومة​ المحكومة برسم ملامح رئيس جمهورية لبنان المقبل، مع أنّ الرئيس الحالي قد ملأ الدنيا وشغلها قبل أن يشغل كرسي ​بعبدا​،

أتساءل:

من يحكم لبنان ؟

لا جواب وأتحدّى من يجيب.

لماذا؟ لأنّ كتابهم/دستورهم مستورد ومفروض ومدفوع ثمنه عدّاً ونقداً ودماء. ويستحيل تطبيقه كما يستحيل عدم تطبيقه وكأنّه دستور إيمان تقبله أو ترفضه ولا تسقط فاصلة منه وإلاّ التنافر والتقسيم والقتال والحروب وإنزال الخالق على رأس من ينبس بالتغيير.

لبنان بلا دستور أو قوانين تكفل حقوق اللبنانيين ومستقبلهم.

كيف؟

بعد خروجهم من الحروبٍ الطائفية بين المسلمين والمسيحيين والحروب المتعددة الجنسيات الفلسطينية والإقليمية والدولية (1973- 1989) خرج أو أخرج خلسةً أو عنوة بعد الإعياء نحو مدينة الطائف لا زعماء الميلشيات بل بقايا نواب ​البرلمان اللبناني​ المجدّد لنفسه من 1972 إلى 1992 وبعصا إقليمية ودولية وأممية وإغراءات مالية كبرى ليقرّ هناك منعزلاً وثيقة الوفاق الوطني/إتّفاق الطائف الذي بات دستوراً جديداً للبلاد أعاد توزيع السلطات في لبنان، وأبقاه معلّقاً في الإجتهادات والقراءات المتناقضة.

يجب أن نتوقف عن مطالبة الرئيس ​حسين الحسيني​ بنشر محاضر مناقشات الطائف، ونقدّم دعوى من اللبنانيين غير الحزبيين بحقّه لإحتفاظه كفرد لبناني لا كرئيس مجلس نوّاب بتلك المحاضر والمقررات. هي ملك أولادنا وأحفادنا وملكنا ويجب الكشق عنها وعن أسرارها مهما كانت النتائج.

السبب الذي يدفعني تكراراً إلى هذه المطالبة الملحاح أنني أوكلت الى مجموعة من الإعلاميات والإعلاميين إجراء مقابلات موثّقة مع النواب الذين كانوا في الطائف وبعض الشخصيات وقد بلغوا سنّ اليأس وبحوزتي وثيقة إذن/ كتاب/مخطوطة لم تنشر بعد تؤكّد الشعار التالي:

من أخرج نصوص الطائف مجموعة معظمها من بشر ذي لسانين وأصحاب كلام مودع في الأفواه بالضغط والإكراه والتهديد والشراء. لو ينشر هذا الكلام لحصل ما يتجاوز الهزّات السياسية والوطنيّة.

أعرف الكثير من التفاصيل والحكايات وأخجل من نشرها أو أتوجّس لأنني حصلت على بعضها من والد زوجتي النائب المغفور له فريد جبران الذي رسب في إنتخابات 1992. كلّهم كانوا في الطائف ومعظمهم كانوا يرتجفون مهجّرين ومرحلين وكان الجنرال عون وحيداً في بعبدا. وكنت في حينها متسلّماً بالمضمون لا بالشكل ​تلفزيون لبنان​ بعلاقة ​حافلة​ بالتفاصيل مع رئيس الجمهورية المغفور له ​الياس الهراوي​.

وبعد

أخرج إتّفاق الطائف الصراع التاريخي بين المسلمين والمسيحيين مقرّاً ​المناصفة​ بينهم في التمثيل البرلماني والحكومي ووظائف الفئات الإدارية الأولى. تلك هي الإيجابية الوحيدة التي لم تسحب الضغينة والأحقاد ممّا حصل. غالب ومغلوب. كان ​رفيق الحريري​ يفاخر بأننا أوقفنا العدّ الطائفي في إحتساب اللبنانيين في الطائف ودخلنا مرحلة التنوع والإنصهار الوطني المستحيل. نعم المستاحيل بالتجربة الوطنية لا بالمصالح والإنتفاع.

أرضى الأمر المسلمين السنة جيداً وأخرجهم من عقد الأكثرية والغبن والإحباط التاريخية إلى الفيض والتمادي في الإمساك بالسلطات التي إنتقلت الى ​مجلس الوزراء​ مجتمعاً والذي فيه لم تتحدّد تلك السلطات وتتبلور ولم يصل لبنان إلى منهج عمل أو قانون داخلي يحدّد عمل مجلس الوزراء وصلاحيات رئيسه أو أي وزير فيه. كان الرئيس الحريري رئيساً قويا بحضوره الإقليمي والعالمي وكان الرجل صاحب ملاءة مالية كبرى. إستطاع رفيق الحريري بملاءته وسعوديته تطويع العديد من زعماء الطوائف الأخرى وإستقطاب في "تيّار المستقبل" كما في تطلعاته وإزالة الوعورة من طرقه. إذن أصبحت السلطات في لبنان تدار تبعاً لقوة شخصية رئيس الحكومة السني.

إنتقلت بذلك مشاعر الغبن والإحباط المسيحي بقوّةٍ إلى ​الموارنة​ همساً أو جهراً بعدما شعروا بفقدان السلطات وتحديداً سلطات رئيس الجمهورية . ساعد في ذلك التوجس والإحباط الماروني والشيعي العام مسنوداً الى الوجود السوري القابض على مفاصل السلطات آنذاك برعاية دولية واليقظ جدّاً على كبح الإزدواجيات في المواقف والمصالح وصولاً غلى الويكيليكسيات.

يتحوّل هذا الجهر ويستمرّ اليوم قافزاً الى مستويات من الخطب والتصريحات النارية والحنين المستحيل إلى إستعادة سلطات الماضي المسيحي في حكم لبنان. المستحيل لأنّ نبرة إسلامية سنية وشيعية عادت ترفع برأسها خروجاً من المناصفة إلى العددية حيث يختلّ التوازن فاضحاً في الإنجاب و​الهجرة​ بين مكونات لبنان وحيث تتدفّق ​الشباب​ من المذاهب المتنوعةعلى أبواب السفارات يأساً وطلباً لمغادرة لبنان.

يتحوّل فتيل الإلتهاب التاريخي الطائفي إذن إلى مستويات أخرى مقلقة من الصراعات والتحالفات بين الأحزاب والميليشيات التي سيطرت على لبنان في الحرب وإستمرّت في الإمسالك به في السلم محكومة بالسرقات وصعوبة الحكم بل إستحالته. وصلنا بعد ​قانون الإنتخابات​ البرلمانية النسبي إلى إحباط وطني من الأحزاب كلّها وإلى ما يعرف اليوم بالثنائيات الطائفية المتنافسة والمتحالفة أوالمتصارعة والتي صارت عقداً يصعب حلّها أو قطع حبالها مثل الثنائية الدرزية بين الجنبلاطيين والإرسلانيين (تصوروا إرسلان ذهب غلى ​روسيا​ ليكون في الوزارة المقبلة) والثنائية الشيعية الممثّلة ب​حزب الله​ و​حركة أمل​ والتي بحاجة دائمة الى شدّ وترها إذ يترهّل، بصرف النظر عن أعداد ​الشيعة​ الآخرين والثنائية المارونية الممثلة ب​التيار الوطني الحر​ الذي قفز مثل الصاروخ في الأجواء لكنّه أربك إذ لامس الواقع والقوّات اللبنانية التي تشبك علاقاتها في مختلف الإتجاهات وتستند إلى خبرات إعلامية وطاقات مالية كبرى يخاف ​المسيحيون​ منها عبر تذكرهم لخرائب حرب الإلغاء بين ​الجيش​ والقوات التي ما زالت تدمغ مناطقهم في ​كسروان​ بالخرائب، بصرف النظر عن عشرات الأحزاب المارونية و​المسيحية​ الأخرى المهملة وبصرف النظر عن مجموع المواطنين اللبنانيين من مختلف الطوائف المنصاعين إلى هذا الواقع المعقد والمر.

لا دستور يطبق في لبنان لأنّ رؤوساء الأحزاب الطائفية أقوى من الدولة بل هي الدولة والمنتمون إليها لا يتجاوزون ال15 بالمئة من المواطنين وأقلّ من ذلك بكثير إذ لطالما تمثّلت أحزاب في البرلمان أو الحكومة برئيس حزب ونائب في البرلمان وليس معه في الحزب أكثر من السائق والمرافق وأبناء عمومةلا يتجاوز عددهم أصابع اليدين.

من يحكم لبنان ؟

أمراء الحروب والطوائف والمحاصصات وما كان يعرف برؤساء الميليشيات مع أنّ التسمية تغيظهم جميعاً. نعم تحكمه الميليشيات بسلوكها وقناعاتها لكن بثياب غير ميليشياوية وكأن لبنان وطن بلا شعب. من هو غير حزبي ليس من الشعب. المستقل تافه ولا قيمة له ولا كلمة ولا دور.

من يحكم لبنان؟

يحكمه رئيس الجمهورية ورئيس ​مجلس النواب​ ورؤساء الأحزاب ورؤساء الطوائف والوزراء بصفتهم رؤساء ووفقاً للدستور وبالممارسة الوزير أقوى من رئيس الحكومة. يحكمونه مجتمعين ومتناكفين ومتحصاصصين ومتعاضدين في تقاسم الوطن/ قالب الجبنة كما أسماه الرئيس فؤآد شهاب عندما خرج من بعبدا نحو الصمت وحرق ملفات رئاسته في الجنينة قرب منزله في ​جونية​ حيث قال كامة واحدة:

خلصنا ربّما من الإستعمار الخارجي وقعنا في إستعمار أشرس هو الإستعمار الداخلي.

نصّ دستور الطائف على فصل السلطات وتوازنها وتعاونها، ولم يتمكن أحد من هؤلاء العباقرة فهم الحدود التي أرساها مونتسكيو بين الأفعال الثلاثة: فصل، تعاون، توازن. يروى هنا أن الخلاف الكبير الذي حصل في الطائف كان في مشاركة النواب رئيسي الجمهورية والحكومة في تشكيل الوزارات حيث تتمسّك الأحزاب بالجمع بين النيابة والوزارة بما يؤلف تدخلاً دائماً من السلطة التشريعية في أمور السلطات الإجرائية وإبطال دور الرقابة البرلماني وأجهزة الرقابة المنوطة كلّها برئيس الوزراء.

كيف يؤلّف إبن رفيق الحريري سعد الدين بالتعاون مع رئيس الجمهورية حكومته إذا كان كلّ زعيم حزب متمترساً فوق تلّة ومتمسّكاً بالخارج أي خارج ويتصرّف بمثابة رئيس جمهورية ورئيس برلمان ورئيس حكومة بل أقوى من الثلاثة في التعطيل وحفر الطرقات الوطنية بدلاً من تزفيتها؟

كيف ينسّق رئيس الحكومة ويدير السلطات الإجرائية إذا كان كلّ وزير أمامه ممثلاً لرئيس حزبه لا لحزبه ويعتبر نفسه أقوى من رئيس حكومته ويتنافرويتخاصم معه وفقاً لمصلحته ولحقوق طائفته المحصورة بمحازبيه وكذلك مع كلّ الوزراء الممثلين بدورهم لرؤساء أحزابهم ومحازبينهم حول طاولة مجلس الوزراء؟

حول الطاولة ثلاثون وزيراً كلّ واحد يمثّل محازبيه وكأنّه لا يعنيه المواطنين الآخرين هذا ما يجعل الوزير رئيساً لا وزيراً في جلسات تناتش المناصب والمغانم وتقاسم دفاتر الشروط والصفقات والمصاريف والمحاسيب.

بات الحكم مستحيلاً في لبنان مهما كان الرئيس أو الحزب ولو غار المواطنون الحقيقيون في شقوق الفساد والقهر والطحن والعذاب والتهديد ب​القضاء​ والسجن والمرمطة في دوائر الدولة.

قدّم زعماء الميليشيات /الأحزاب/ الرؤساء بالتسلسل السلطوي وطنهم لبنان "بروفا" أي أنموذج تجريبي/تخريبي متّقد للربيع العربي" الذي غطّى ويغطّى الفصول والأمكنة العربية بالكوارث.

لا هؤلاء إستلّوا العبر وبلغوا معايير النضج واليقظة في الحكم ولا التفتوا إلى العرب الذين ما إستلّوا العبر بدورهم في التدخّل بشؤون لبنان نقطة العسل المغشوشة في الصحراء فوقعوا بدورهم في الحروب المستوردة المتنقلة من دار لدار حيث لا مستقبل لنا ولهم إلاّ بالحوار والتآلف والتفاهم ورسم حدود السلطات في ما بينهم والنزول من العروش الى الناس الكافرة بالأحزاب.