دخلت البلاد عطلة ​عيد الأضحى​، وتجمّدت مفاوضات تأليف الحكومة المجمَّدة أصلاً في انتظار كلمة سرّ أو ضوء أخضر، خارجي على الأرجح، بعدما سُدّت كلّ السّبُل الداخليّة لغايةٍ في نفس يعقوب، وعلى جري العادة اللبنانية.

وفي الانتظار، عادت مسألة "الحريات" إلى التداول خلال الساعات الماضية. رئيس حزب "​القوات اللبنانية​" سمير جعجع كان المبادر هذه المرّة، بحديثه عن "رواسب النظام الأمني السوري-اللبناني" التي لا تزال مستمرّة، مدعوماً برئيس "​الحزب التقدمي الاشتراكي​" وليد جنبلاط الذي لا يمرّ يوم من دون أن يستنكر "الاستدعاءات" شبه اليومية لعدد من المواطنين بسبب "آرائهم ومعتقداتهم".

فهل يواجه لبنان فعلاً "معركة حريّات" في ظلّ العهد الجديد بعدما اعتُبِر لسنوات منارة الشرق والوجه الحضاري وشبه الديمقراطي في المنطقة؟ وهل عادت عقارب الساعة إلى الوراء ليسود القمع وتكميم الأفواه، أم أنّ هناك من يروّج لمثل هذه الصورة في إطار التوظيف السياسي لا أكثر ولا أقلّ؟!.

تصويب على العهد؟

لا معركة حريّات في لبنان. هذا ما يؤكده معظم المحسوبين على "​التيار الوطني الحر​" أو المقرّبين من العهد، من دون تردّد ولا تفكير. هم يضعون "الحملة" التي يصفونها بـ"الممنهجة" على هذا الصعيد في إطار "التصويب على العهد"، الذي يتّخذ أشكالاً متنوّعة ومختلفة، والذي يأتي أيضاً في خضمّ رفع الأسقف والمطالب على خط تأليف الحكومة.

برأيهم، لا تستدعي "الاستدعاءات" ولو تكرّرت لمن يصطلح على وصفهم بـ"الناشطين" على مواقع التواصل أي "قلق" على الحريات، التي يحرص عليها الرئيس ميشال عون أكثر من أيّ شخصٍ آخر، هو الذي خاض "نضالاتٍ تاريخيّة" في سبيلها. هم يقولون إنّ الحرية مُصانة، لكنّها يجب أن تكون مسؤولة، وهو ما يؤكده الدستور والعرف، ويلفتون إلى أنّ معظم الاستدعاءات التي يستغلّها البعض للتصويب على العهد لا علاقة للرئيس عون أو لـ"التيار" بها من قريب أو من بعيد، باعتبار أنّ بعضها له علاقة بالتعرّض للأديان السماوية، وبعضها مرتبط بشكاوى تقدّم بها "متضرّرون"، وهو حقٌ طبيعيّ لأيّ إنسان في دولة تصنّف نفسها "دولة قانون ومؤسسات".

أكثر من ذلك، يكفي بالنسبة لهؤلاء أن تكون معظم الانتقادات صادرة عن "القوات اللبنانية" و"الحزب التقدمي الاشتراكي" لتأكيد فرضية "التصويب على العهد". العلاقة مع "القوات" ليست في أفضل أحوالها، خصوصاً بعد انهيار "تفاهم معراب"، وشعور "القوات" بأنّ "التيار" يحاصرها ويمنع إعطاءها الحدّ الأدنى ممّا تعتبره "حقوقاً مشروعة" لها في الحكومة، ولو جاهر بخلاف ذلك. أما "الحزب التقدمي الاشتراكي"، فالعلاقة بينه وبين "التيار" تنتقل من السيّء إلى الأسوأ، خصوصاً في ظلّ العقدة الدرزية، التي يتموضع فيها "العونيّون" بوضوح في وجه "البيك"، رفضاً لاستئثاره بالتمثيل الدرزي الكامل في الحكومة.

وانطلاقاً من هذه المعطيات، يعتبر هؤلاء أنّ مصلحة هذين الفريقين تتلاقى لاستكمال خطتهما في التصويب على العهد، والتي هي ليست جديدة على كل حال، بل بدأت منذ انطلاقة العهد، وتحت ظلال الحكومة السابقة، حين كانت معظم مشاريع وزراء "التيار الوطني الحر" تتعرقل ويتمّ التشويش عليها منهما تحديداً.

مبرّرات غير مقنعة؟

لا تلقى المبرّرات التي يعطيها "التيار" لـ"الاستدعاءات" قبولاً لدى "القوات" و"الاشتراكي"، ولا في صفوف الكثير من "الناشطين" الذين يعتبرون أنّ هناك محاولة لترهيبهم وإسكاتهم بشكلٍ أو بآخر، بما يعيد إلى الأذهان مرحلة "النظام الأمني السابق"، التي كان "التيار الوطني الحر" للمفارقة أول من انتفض في وجهها.

بالنسبة إلى هؤلاء، قد يكون صحيحاً أنّ بعض الاستدعاءات تتمّ بناء على شكوى من "متضرّرين" وبالتالي لا علاقة لـ"التيار" أو للعهد بها، إلا أنّ الأصحّ أنّ هذه الحالات تشكّل "الاستثناء" لا "القاعدة"، لأنّ القاصي والداني يعلمان أنّ معظم الاستدعاءات التي يُقال إنّها تتمّ تلقائياً من جانب النيابة العامة، ومن دون حاجة إلى أيّ شكوى، تجري على خلفية التعرّض لرئيس الجمهورية، أو حتى لرئيس "التيار" وزير الخارجيّة في حكومة تصريف الأعمال جبران باسيل.

وإذا كان حجم "الاستدعاءات" وحده كافياً لدقّ ناقوس الخطر برأي أصحاب وجهة النظر هذه، خصوصاً أنّه لا يكاد يمرّ يومٌ واحدٌ من دون استدعاء ناشطٍ أو أكثر على خلفية منشور كتبه على وسائل التواصل في الغالب، فإنّ "التعهّد" الذي يُطلَب ممّن يتمّ استدعاؤهم التوقيع عليه بعد خضوعهم لتحقيق مطوّل كافٍ هو الآخر لرسم الكثير من علامات الاستفهام، إذ كيف تصان الحريّات فيما يتمّ إلزام ناشطين بعدم التعرّض بتاتاً، ولا حتى من باب النقد البنّاء، لهذا المسؤول أو ذاك، وتحت أيّ ظرفٍ من الظروف.

ومع أنّ هؤلاء يقرّون بالنظرية التي يستند إليها "التيار" في القول إنّ الحرية مسؤولية أولاً وأخيراً، وبالتالي إنّ هناك حدوداً وضوابط يجب الالتزام بها، ثمّة من يسأل عن هذه "الضوابط" في ظلّ العهود السابقة، التي يبدو أنّ الحرية كانت فيها مصانة أكثر. ويذكّرون كيف أنّ الوزير جبران باسيل كان في مقدّمة المدافعين عن الناشطين والرافضين لاستدعائهم بسبب آرائهم، بل إنّه لم يتوانَ عن الوقوف في صف ناشطين لم ينتقدوا رئيس الجمهورية فحسب، بل ذهبوا لحدّ "شتمه" صراحةً، وهناك تغريدةٌ واضحة للوزير باسيل في هذا الإطار يستمرّ تداولها على نطاقٍ واسع حتى اليوم.

الحريات خط أحمر...

يثير الحديث عن "الحريات" في لبنان، كما كلّ شيء، الجدل والسجال، في ضوء انقسامٍ واضحٍ بين معسكرين، معسكر محسوب على "العهد" يعتبر الأمر كلّه "مسرحيّة" لا تمتّ إلى الواقع بصلة، ومعسكر مناهض لـ"العهد" يدقّ ناقوس الخطر، باعتبار أنّ الحريات مهدَّدة، وأنّ حق الرأي لم يعد مكفولاً.

الواضح أنّ المعسكرين محقان في مكان ومخطئان في آخر. الواضح أنّ هناك قلقاً على الحريات، لأنّ الاستدعاءات بدأت تتخطى المنطق المقبول كماً ونوعاً، والواضح أيضاً أنّ هناك من يحاول استغلال واستثمار ذلك لغايات ومآرب سياسية معروفة، فيما المطلوب واحدٌ،ألا وهو إبعاد مسألة الحريات، التي يفترض أن تبقى خطاً أحمر، عن الأجندات السياسية، فوراً وقبل فوات الأوان...