كل الجمود الذي يحيط عملية التأليف الحكومي، يوحي بألاّ إتفاق بين القوى السياسية بشأن التركيبة الحكومية، وبالتالي، لا يوجد موعد محدد للإفراج عن مجلس الوزراء.

لكن، ثمة مؤشرات تفرض القراءة في أبعادها.

أولاً: لماذا رفع رئيس الجمهورية ​ميشال عون​ سقف خطابه في مقاربة ملفّ الحكومة، الى حدود كلامه عن مقاربة رئاسية جديدة بعد شهر آب؟ دستورياً، لا إمكانية للإطاحة برئيس الحكومة المكلّف. وسياسيا، لا يمكن لأي فريق أن يُجبر رئيس الحكومة المكلّف ​سعد الحريري​ على التنحّي، أو يفرض عليه شروطاً، لا في الاقدام، ولا في التراجع. هذا يعني أن الضغوطات معنويّة، سمّاها فريق الحريري "إبتزازاً". هي لا تُنتج سوى حشر رئيس الحكومة المكلف، والعواصم التي يتهمها اللبنانيون بوضع العراقيل الداخلية، لمنع ولادة الحكومة. لا يبدو أنّ الحريري سيستجيب لأي "إبتزاز" داخلي، لعدة أسباب تتعلق بشكل أساسي، بصلاحيات رئاسة مجلس الوزراء، والحقوق التي ارساها ​اتفاق الطائف​، وعدم قدرته على التفريط بها.

ثانيا: يترقب اللبنانيون حراك الحريري مجددا، لدفع عملية التأليف بعد زيارته الرياض من جهة، ومن جهة ثانية، الاجتماعات التي اجراها وزير الخارجية والمغتربين في حكومة تصريف الاعمال ​جبران باسيل​ في روسيا، والتي يمكن ان تكون تطرقت ضمنا لموضوع الحكومة اللبنانية العتيدة.

ثالثا: يبدأ الوفد الأميركي جولة في لبنان، لا يمكن التنبؤ بنتائجها لجهّة الملف الحكومي، خصوصاً أن ​الكونغرس الأميركي​ يناقش في بداية الشهر المقبل تقريراً حول "​حزب الله​" في لبنان. ما يعني أن الضغوطات الأميركية قد تزداد أو تتراجع على لبنان، بحسب توصيات التقرير وقرار الكونغرس.

رابعا: تُثار مسألة العلاقات الطبيعية مع سوريا، لأسباب جوهرية تبدأ بموضوع التنسيق لاعادة النازحين من لبنان. وهو ما يعارضه الحريري، ويريده معظم القادة السياسين، وخصوصا رئيس الجمهورية ميشال عون والمجلس النيابي ​نبيه بري​.

تحول هذا العنوان الى مساحة اشتباك سياسي مفتوح، بين اصرار على اعادة العلاقات، وبين رافض لها.

خامسا: يجري النقاش علنا حول الحقائب، لكن السباق ضمنيا يقوم حول "الثلث الضامن"، أو ما يُعرف بالتوازن السياسي، الذي يراه كل فريق بحسب مصالحه، فلا يرضى فريق رئيس الجمهورية بأن يكون كل الوزراء الدروز مع الحزب "التقدمي الاشتراكي"، لعدم استخدام لعبة الميثاقية في تعطيل أو تكبيل مجلس الوزراء. لكن الأهم، هو ان التموضعات السياسية تحاول منع بعضها من امساك لعبة "الثلث المعطل"، رغم ان تلك التموضعات المستجدّة، متقلّبة بحسب مصالحها، فتتداخل التحالفات عند كل استحقاق، ما بين الاستراتيجي والتكتيكي.

سادسا: كل فريق يرى في الحكومة طويلة الاقامة حتى موعد الانتخابات النيابية والاستحقاق الرئاسي، أي انها قادرة على لعب دور خدماتي في لعبة الانتخابات، فيجري السباق حول الحقائب والادوار.

كل ذلك، لا يهم المواطنين الذين باتوا في مواقع اخرى، ومن ضمنهم مناصرو الاحزاب المتسابقة. الناس صارت بحاجة الى حكومة تكسر الروتين، وتحدّ من التدهور المعيشي، وتمنع التراجع المالي. لم يعد عنوان السياسة اولويّة عند المواطنين. فلا حزب قادر على التحشيد ضد غيره، كما كان يحصل سابقا. "الناس تريد العنب، لا قتل الناطور". من هنا، فإن الانتقادات الشعبية بدأت تتظهّر. حصة التيار "الوطني الحر" و"التقدمي" و"القوات" و"المستقبل" من تلك الانتقادات اكثر من غيرهم، لأنهم مسؤولون بشكل مباشر عن التعطيل الحكومي. هذا يفرض حذر الحريري وباسيل ورئيس الحزب "التقدّمي الاشتراكي" ​وليد جنبلاط​ ورئيس حزب "القوات اللبنانية" ​سمير جعجع​، لأن أوجاع المواطنين تزداد، في وقت يرى فيه الشعب ان السباق جار لتحقيق مصالح خاصة، لا اولويات الناس. تلك هي الحقيقة اليوم، التي يقولها المواطن في يومياته. اذا ارادوا التأكد، فليسألوا الناس، ما هي اولوياتهم؟ وليسألوا أيضا: ماذا يعني تأخير الحكومة والمعالجات الرسمية لهموم المواطن؟. ان شهر أيلول المقبل يحمل معه الاعباء على كاهل الناس، من خلال بدء موسم الاقساط المدرسية المتعبة، وتكاليف باهظة في التجهيزات لفصل الشتاء، كما جرت العادة عند اللبنانيين. تنتهي المهرجانات الصيفية، ونشاطات شغلت المواطنين في الاشهر الماضية، ويعاود القلق الدخول من دون استئذان. وما يزيده الآن، هو غياب السيولة المالية، والافتقاد الى المعالجات الحكومية. فماذا بعد؟.