أتُراني على ضلال، إن قُلتُ إنَّ الوضع الحالي في كنيستنا يُنبىء بموتٍ روحيّ بدأت ملامحه تَلوح في الأفق القريب، ولم يعُد بعيداً طالما أنّ الأمور سائرة بسرعة بهذا الإتجاه الرّخيص الذي يسرق أعيّادنا المقدّسة ومناسباتنا الروحيّة إلى العالم المادي ويُحدرها إلى العادي والرّتيب، ويأتي ب​المياه​ الآسنة إلى محيط النعمة هذا، الذي هو مكان الإندهاش بعظائم الله، والذي ننهلُ منه لحياة محبّة تجمعنا بالله وبإخوتنا، ويُعِدّنا للحياة الأبدية التي هي سَعيُ وتَوقُ وغايَةُ وقِبلةُ كلّ إنسان مؤمن.

أُنظروا معي، كيف أصبحت عليه حالتنا الدينيّة الراهنة.

أعيادنا الدينيّة مهرجاناتٌ، وأيّام صخَبٍ وطَرَب، وليالٍ مِلاح يتخلّلها قُدّاسٌ من هُنا وصلاةٌ خجولة من هُناك، وعرضُ عضلاتٍ روحي في شوارع البلدة أو المدينة، خالٍ بغالبيته من آداب الرّوح، ومُفرقعات تُعَظِّم من شأن المناسبة بِما تتركه من شعورٍ بالدهشة والإعجاب، ومأكولات تملأ الأجواف بأطايب الطّعام... وهَرجٌ ومَرجٌ... وكلّ ذلك برعايةِ أصحاب المقامات الدينيّة المسحورة بأعداد الوافدين إلى العيد، والتي تختلِط أسماؤهم وصورهم، على اليافطات المُعلّقة فوق أيّ شيءٍ كان وأينما كان، بأسماء وصُوَر الفنّانين المُرفِّهين عن ذات الشعب التائق إلى مَن يُرَقِّصه ويفسِّح عنه ويُدخل إلى قلبه البهجة والسرور.

أمّا من يدعو إلى هذه المهرجانات المُسّماة بأسماء أولياء الله وقدّيسيه، الذين جاهدوا الجهاد الحسن لينالوا الغَلَبَة ويستحقّوا لهم ولغيرهم إكليل النّصر والخلاص، فهُم: رُعاة الرعايا ولجان أوقافها وحركاتها الروحيّة ومؤسّساتها الدينية! الذين من المُفترض بِهم أن يهتمّوا بشؤون الرّوح، ويَعملوا على إيلاد أبناء وبناتٍ لله، ويقودوا ثَورة المحبّة في الكنيسة، لإعلاء شأن قيَم ملكوت السماوات الذي دعا يسوع الجميع إلى الدخول فيه بالتوبة، لا بالغناء والرقص! ولكن، وللأسف الشديد، يبدو أنَّ الإهتمام بشؤون الرّوح، لا يأتي لهؤلاء بكنوز الأرض ولا بشعبوية مُرادة للشَّوفنة، ولا يَملأ صناديق المعابد واللجان وغيرها من الهيكليات الدّينية بعُملَة هذا العالم، ولا يُوَسِّع مساحات المعابد الحجرية التي لم تَعُد تعجُّ بالبشريين الوافدين إليّها إلاّ في الساعات السوداء، ساعات الوداع الأخير، من دون أن يعني ذلِك إيماناً وَرِعاً ولا محبّةً زائدة، ولا رغبَةً بمرافقة الرّاحل ب​الصلاة​، بل واجباً تُحتّمه العلاقات الإجتماعية عند بعضهم، و​الفائدة​ السياسية عند بعضهم الآخر، والمنفعة الشخصيّة عند البعض.

نعم، سرقت المهرجانات المدعوّة "دينيّةً ومقدّسة"، الله من حياة المؤمنين بالله، وبالتالي بهجة الخلاص بالله، وقدمت لروّادها موادَ مُخَدِّرَة ذات صلاحيّة فرح محدودة في الزمان والمكان، لا تَصلُحُ إلاّ لأبناء هذا الدّهر الهائمين على غير هُدى، والباحثين عمّا يُسعِدهم في هذا العالم، من دون الإفساح لهم بالمجال للإرتفاع بأفكارهم وعقولهم وقلوبهم إلى فوق، من حيث تأتيهم النعمة والعون.

فيا أيّها المؤمنون السائحون في الأرض، السائرون على دروب ​الحياة​، والساعون إلى عالَمٍ إنسانيّ ومُستقبَلٍ إلهيّ؛ ​المسيحيون​ لا يحتفلون بأعيادهم المقدّسة بطريقة العالم، ولا بمهرجانات الرقص والطقش والفقش، ولا بمعاقرة الخمرة، ولا بإطلاق المفرقعات وغيرها من الألعاب... بل ب​الصوم​ والصلاة وخدمة الإنسان والسّعي إلى تتميم إرادة الربّ، والسهر على قداسة الذّات واقتناء الخلاص، وكل ما هو دون ذلك وَثَن... وَثَنٌ... وَثَن... يُميتُ ولا يُحيي، يُهلِك ولا يُخَلِّص. ومَن له أُذنان سامعتان فليسمع، ويَعي ويتّعظ ويتغيّر بتجديد عقله، فيُميِّز مَا هِيَ مَشِيئَة الله، أَيْ مَا هُوَ صَالِحٌ ومَرْضِيٌّ وكَامِل(روم12: 2)، ويسعى إليه. ولَعلَّ مَن يسمَع ويَعي ويتّعِظ ويتغيّر!.