"لا تلعبوا بالنار". بهذه العبارة، أو المعادلة إن صحّ التعبير، توجّه الأمين العام لـ"​حزب الله​" ​السيد حسن نصر الله​ في خطابه الأخير، إلى من وصفهم بـ"المراهنين" على القرارات التي قد تصدرها ​المحكمة الدولية​ قريباً، لتغيير موازين القوى في الداخل، ورسم صورة "وضع جديد" مغاير عمّا كان سابقاً.

بدا موقف نصر الله مفاجئاً في الشكل والمضمون، هو الذي أتى من خارج سياق خطابه، كما أقرّ بنفسه. وإذا كان من الطبيعي أن تنقسم "الأصداء" عليه بين من اعتبره "رداً طبيعياً" على ما يُثار في الكواليس السياسية منذ أسابيع على خطّ المحكمة، وبين من رأى فيه "استقواء من دون قيمة" باعتبار أنّ المحكمة قائمة ومستمرّة رغم كلّ شيء.

في الحالتين، طُرِحت سلسلة من علامات الاستفهام، فما الذي يمكن أن يدفع السيد نصر الله إلى طرح موضوع المحكمة في هذا التوقيت، بعد سنواتٍ من التجاهل وعدم الاكتراث بها وبقراراتها؟ وأبعد من ذلك، ماذا قصد بمعادلة "عدم اللعب بالنار"، ولمن وجّهها تحديداً؟!.

"دليل خوف"؟

ليس خافياً على أحد أنّ "حزب الله" الذي سبق أن اعتبر المحكمة الدولية أداة سياسية في وجهه، يتصرّف منذ سنوات وكأنّها غير موجودة، ولا قيمة لها من قريب أو من بعيد. وهو سبق أن رفض تسليم المتهمين من جانب المحكمة بالتورط في اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري لاعتبار الاتهامات "سياسيّة" لا تمتّ إلى الحقيقة بصلة، وذهب لحدّ وصفهم بـ "المقاومين الأبطال".

ولأنّ لا وجود للمحكمة في قاموس الحزب، طرح موقف أمينه العام تساؤلاتٍ عن دوافع خروجه عن السياسة المعتمَدة، وإثارته ملفّ المحكمة الدولية في خطابه الأخير، بل توجيهه الرسائل عبره، علماً أنّ البعض من خصوم الحزب ومن مؤيدي المحكمة، لم يتردّد في اعتبار ذلك "دليل خوف" منها ومن قراراتها، خصوصاً أنّ كلّ الترجيحات تشير، استناداً إلى مسار المحكمة، أنّ الاتهام سيُوجَّه صراحةً إلى عناصر في "حزب الله" باغتيال الحريري، مع ما يمكن أن يكون لذلك من تداعيات، قد لا يكون أقلّها إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وتحديداً إلى العام 2005.

لكن في مقابل هذه القراءة، ثمّة مقاربة أخرى تنطلق من "الربط" بين القرارات "الموعودة" للمحكمة والتأخير في ​تشكيل الحكومة​، وتشير إلى أنّ هذا بالتحديد هو ما جعل السيد نصر الله يثير إشكاليّة المحكمة، ويكتفي برسالة عامة ولكن حازمة لكلّ من يعنيهم الأمر. بمعنى آخر، أراد الأمين العام لـ"حزب الله" أن يقول إنّ هذا الربط هو بشكلٍ أو بآخر "لعبٌ بالنار"، لأنّه يحمل بين طيّاته رهاناً على المحكمة وقراراتها لتغيير موازين القوى في الداخل، وبالتالي ترجمة ذلك على خط تشكيل الحكومة التي لا تزال تنتظر، علماً أنّ نصر الله حذر في خطاب سابق من الرهان على "المتغيّرات الخارجية"، مؤكداً أنّها لن تكون أصلاً لصالح "المراهنين".

عقبة جديدة

انطلاقاً من المقاربة السابقة، اعتبر البعض أنّ المحكمة الدولية أضيفت، قبل وبعد خطاب نصر الله، إلى سلسلة العُقَد التي تواجه تشكيل الحكومة، بل ثمّة من يقول إنّها "السرّ" الفعلي الكامن خلف جميع العُقَد، خصوصاً أنّ أحداً لم يعد مقتنعاً بأنّ التأخير الحاصل مرتبطٌ بمقعدٍ بالزائد أو بالناقص لـ"التيار الوطني الحر" أو "​القوات اللبنانية​" من جهة، أو "​الحزب التقدمي الاشتراكي​" أو "​الديمقراطي اللبناني​" من جهة ثانية.

من هنا، يمكن القول إنّ الأمين العام لـ"حزب الله" أراد أن يزيل هذا "اللغم" من العقد الحكومية، لا تعزيزه، لأنّه إذا كان صحيحاً أنّ هناك انقساماً لبنانياً عمودياً في النظر إلى المحكمة منذ سنوات، وأنّ هناك شريحة واسعة من اللبنانيين مقتنعة بما يصدر عن المحكمة في مقابل شريحة أخرى لا ترى ذلك واقعياً، فإنّ القوى السياسية ارتضت منذ سنوات "تحييد" المحكمة عن اليوميات السياسية، بدليل "المساكنة" القائمة في معظم الحكومات المتعاقبة بين "​تيار المستقبل​" و"حزب الله".

وإذا كان "حزب الله" يعتبر مجرّد ربط المحكمة بالحكومة دليلاً على "سوء نيّة" موجود لدى البعض، فإنّ الكثير من المراقبين، انطلاقاً من ذلك، لاحظوا في خطاب نصر الله تمسّكاً بضرورة الإسراع في تشكيل الحكومة أكثر من أيّ وقتٍ مضى، بدليل "الإيجابية" التي اتّسمت بها مواقفه الداخلية، حتى أنّه بدا أخفّ باللهجة والمضمون عن المواقف التي أطلقها في الخطاب السابق قبل أقلّ من أسبوعين. ولعلّ المفارقة في هذا السياق أنّ نصر الله حرص حتى على الدعوة إلى "ترحيل" ملفّ العلاقات مع ​سوريا​ إلى ما بعد تشكيل الحكومة، في رسالة فُسّرت إيجابياً، بعدما كان وجّه رسالة لرئيس الحكومة المكلف ​سعد الحريري​ بعدم إلزام نفسه بمواقف مسبقة ربطاً بالموضوع نفسه سابقاً.

وعلى خطّ "الإيجابية" نفسها، توقف البعض عند حرص نصرالله على عدم التصعيد، بل عدم تبنّي وجهة نظر أي من الفرقاء بمن فيهم حلفاؤه، وهو لم يوجّه إصبع الاتهام بالتأخير في تشكيل الحكومة لأحد، ولا حتى للخارج. كما حرص أيضاً على نفي كلّ ما يُحكى عن "تحكّمه" بالوضع السياسي في لبنان، مشيراً إلى أنّ حزبه "أكبر حزب سياسي، لكن أقل حزب يمارس السياسة"، فضلاً عن نفيه ما يُشاع عن أنّ ​الرئيس ميشال عون​ ووزير الخارجيّة في حكومة تصريف الأعمال ​جبران باسيل​ "يُنفذان ما يمليه عليهما حزب الله".

لعبٌ بالنار...

يكفي أن ترد عبارة مثل "لا تلعبوا بالنار" في خطابٍ للأمين العام لـ"حزب الله" لينقسم الرأي العام في تلقّفها، بمُعزَل عن السياق الذي جاءت فيه، والرسائل التي حملتها.

بطبيعة الحال، سيخرج من يقرأ في العبارة "استقواءً بالسلاح"، وبين السطور "تهديداً وترهيباً" للخصوم، في مقابل من سيرى فيها "دليل قوة"، ويدعو إلى قراءتها في سياق "ردّ الفعل" على ما تمّت إثارته أصلاً من خصوم الحزب.

وعلى خط الحكومة أيضاً، سيخرج من يرى في العبارة "عقدة جديدة" أضيفت إلى العقبات أمام تشكيل الحكومة، ومن سيرى على العكس من ذلك، "تنفيساً للغم" كان يُراد وضعه في وجه الحكومة، وبالتالي مساعدة لرئيس الحكومة المكلف على التأليف.

وبين المنطقين، وإذا كان نصرالله أراد توجيه رسالة إلى المراهنين على المحكمة للتأثير في الداخل، فإنّ الدعوة يفترض أن تكون مزدوجة لكلّ الأطراف لـ"عدم اللعب بالنار"، بمعنى عدم الرهان على أي خارج لتعزيز النفوذ في الداخل، سواء تُرجِم ذلك حكومياً أم لم يُترجَم...