مجدّداً، وجد رئيس ​الحكومة​ المكلف ​سعد الحريري​ نفسه مضطراً إلى توجيه الرسائل إلى من يصنّفهم في خانة "الحلفاء" قبل "الخصوم"، في معرض ردّه على ما يُثار في الساحة السياسية من "اجتهادات" و"تأويلات" تستهدف موقعه أولاً وأخيراً.

في بيان كتلة "المستقبل"، قال الرجل كلاماً واضحاً عن العلاقة بينه وبين ​الرئيس ميشال عون​، ومن خلاله "​التيار الوطني الحر​"، مؤكداً أنّها "لم تكن نزهة سياسية، تنتهي بانتهاء هذا الاستحقاق أو ذاك"، وداعياً إلى "الكف عن أساليب تخريب العلاقات الرئاسية".

ليس خافياً على أحد أنّ هذه الدعوة لم يوجّهها الحريري إلى "خصومه" المُعلَنين، بدليل أنّه استند في معرض كلامه إلى الخطاب الأخير للأمين العام لـ"​حزب الله​" ​السيد حسن نصر الله​ بما يخدم موقفه من ملفّ العلاقات مع ​سوريا​، بل كان موجّهاً إلى "الحلفاء" الذين بات يشعر أنّهم "متكتّلون" ضدّه، ويضعون "العصيّ في دواليبه" لسببٍ أو لآخر...

استراتيجية "فاشلة"؟

منذ ما بات يُعرَف ب​التسوية الرئاسية​، يبدو واضحاً أنّ رئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري يطبّق استراتيجيةً مختلفةً في السياسة قوامها نسج شبكة تحالفاتٍ عابرةٍ للأحزاب والمناطق. وإذا كانت هذه الاستراتيجية تعرّضت لبعض "الاهتزازات" في بعض المراحل، خصوصاً بعد أزمة استقالته الشهيرة من العاصمة ​السعودية​ ​الرياض​، فإنّه طبّقها في ​الانتخابات النيابية​ حين لم يجد مانعاً في التحالف مع الجميع، سوى "الثنائي الشيعي"، ولا سيما "حزب الله" الذي وضعه بمصاف "خصمه الأوحد".

مع تكليفه ​تشكيل الحكومة​، بدا واضحاً أنّ الرجل عاد ليتمسّك باستراتيجيته "الجامعة"، فبموازاة قراره عدم التفريط بتفاهمه مع "التيار الوطني الحر"، لم يتردّد في إعادة إحياء "تحالفاته" مع كلّ من "​القوات اللبنانية​" و"​الحزب التقدمي الاشتراكي​"، بعد مرحلة من "القطيعة" مع الأول على خلفية المواقف التي أطلقها خلال أزمة استقالته، ومع الثاني على خلفية ما عُرف بـ"سوء التفاهم" خلال الانتخابات النيابية الأخيرة، وما نتج عنه من اهتزازٍ في الثقة تُرجِم بـ"معارك كلامية" مباشرة بعد الاستحقاق.

اليوم، ثمّة من يقول، حتى في محيط الحريري الضيّق، إن استراتيجيته هذه "فشلت"، ليس فقط لصعوبة واستحالة جمع "التناقضات"، بل لأنّها باتت تقيّده وتكبّله إلى حدّ بعيد. ويكفي للدلالة على ذلك، إدراك أنّ رئيس الحكومة المكلف يصطدم اليوم بحلفائه، وليس بأيّ أحدٍ آخر، من "التيار الوطني الحر" إلى "القوات اللبنانية" و"الحزب التقدمي الاشتراكي"، بحيث يرفع كل منهم سقف مطالبه إلى الحدّ الأقصى المُتاح، من دون أن يوحي بإمكان تقديم أيّ تنازل لتسهيل مهمّة رئيس الحكومة المكلف المفترض أنه "حليف"، ولو أدّى ذلك إلى إظهاره "ضعيفاً" و"عاجزاً"، طبعاً مع رمي الكرة دائماً في ملعبه، والإيحاء بأنّه المقصّر أولاً وأخيراً.

بين الحلفاء والخصوم...

انطلاقاً ممّا سبق، يمكن اختصار المشكلة التي يواجهها الحريري اليوم بتشعّب تحالفاته إلى حدّ "انقلاب السحر على الساحر". فهو حليف "التيار الوطني الحر" الذي لا يبدو مبالغاً به القول أنّ كلّ العقد الحكومية باتت مرتبطة به بشكلٍ أو بآخر. وهو أيضاً حليف "الحزب التقدمي الاشتراكي" الذي لم يبدِ أيّ ليونة في مطلبه "احتكار" الحصّة الدرزية في الحكومة، في ضوء الاعتراضات التي يُجابَه بها. وعلى الرغم من أن الحريري حرص على تسريب تبنّيه لمطالب جنبلاط في أكثر من محطة، فإنّه لم يقابَل من "البيك" بأيّ مرونة أو إيجابية، أقلّه في التعامل مع "الحلول الوسط" التي طُرِحت، وبينها ما يحقّق هدفه بعدم توزير أرسلان أو حزبه، أو ما يعطيه وزيراً مسيحياً بدل الدرزي الثالث. والحريري هو أيضاً حليف "القوات اللبنانية" التي على الرغم من مجاهرتها بأنّها أكثر من قدّم التسهيلات والتنازلات حتى اليوم، بدليل تراجعها من المطالبة بخمس حقائب إلى أربع، فإنّ هناك من يرى أنّ "الشروط" التي وضعتها أدّت إلى تعقيد الأمر لا تسهيله، خصوصاً أنّها كانت تدرك سلفاً أنّ الحقائب السيادية موزّعة سلفاً بين القوى الرئيسية، وأنّ أياً منها لن يوافق على إعطاء "القوات" من كيسه على هذا الصعيد.

وفي مقابل الحلفاء، يبدو "خصوم" الحريري أكثر من يسهّلون مهمّته، والمقصود بالخصوم، هم تحديداً "حزب الله" و"​حركة أمل​"، اللذين حسما الموقف من الحكومة منذ اليوم الأول، وأظهرا "تعفّفاً" على صعيد "الحصص". وعلى الرغم من أنّهما يرميان بورقة "العقدة السنية" في وجه الرجل من وقتٍ لآخر، فإنّ الواضح أنّ حجم تأثيرها يبقى "الأضعف" نسبياً، بل أكثر من ذلك، يمكن القول إنّ بري دخل على خط مساعدة الحريري في حلحلة العقد، سواء من خلال التواصل مع جنبلاط الذي يبدو أنّ "الأستاذ" يمون عليه أكثر من "الشيخ"، أو حتى مع "القوات". ولعلّ الخطاب الأخير للسيد نصر الله أتى ليقدّم "​الهدايا​" للحريري أيضاً، حتى في الموضوع السوري، حين أصرّ على أنّ نقاشه يجري بعد تشكيل الحكومة، فيما كان بعض "الحلفاء" يجاهرون بأنّ الحكومة المقبلة يجب أن تكون حكومة "التطبيع" مع ​النظام السوري​، شاء الحريري أم أبى.

من يحسد الحريري؟

لا أحد يمكن أن يحسد الحريري على الموقف الذي وُضِع فيه. هو ببساطة حليف لمجموعة قوى تحاربه عملياً، سواء أقرّت بذلك أم لم تفعل.

فبين من يقيّده بمهلٍ لم ينصّ عليها ​الدستور​، ومن يضغط عليه لدفعه للاعتذار ولو أعيد تكليفه مجدّداً، ومن يجاهر بوجود "بدلاء" له في حال عجز عن التأليف سريعاً، يجد الرجل نفسه محاطاً بمجموعة "حلفاء" يتكتّلون جميعاً لرمي الكرة في ملعبه، ومنعه من "المبادرة" من خلال حصاره بمجموعة شروط وشروط مضادة.

بيد أنّ المشكلة ليست في الحريري ولا في حلفائه، بل في التركيبة كلّها من أساسها، تركيبة تجعل التحالف بين متناقضات أمراً طبيعياً، تماماً كما تكرّس منطق "حكومات الوحدة" التي لا تستقيم ديمقراطياً، كما أثبتت التجارب عدم قدرتها على الإنتاج...