في الوقت الذي يتصاعد فيه الحديث عن إنفراج قريب مُحتمل على مُستوى تشكيل الحُكومة على الرغم من بقاء الكثير من العراقيل قائمة، يُواجه ​لبنان​ العديد من الإستحقاقات الضاغطة والتي يبلغ بعضها مُستوى التهديد لإستقراره، إن لم يكن أمنيًا فبالتأكيد على الصُعد السياسيّة والماليّة والإقتصاديّة والحياتيّة والمعيشيّة، إلخ. فما هي أبرز هذه الإستحقاقات أو التهديدات-إذا جاز التعبير؟

أوّلاً: إنّ قرار وقف الدعم المالي الأميركي لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيّين (أونروا) يعني عمليًا توجيه ضربة قاسية للمُساعدات التي يتلقّاها الفلسطينيّون داخل المُخيّمات على مُستويي التعليم والصحّة. وهذا القرار الذي يندرج ضُمن الضُغوط الأميركيّة المُتصاعدة لحمل الفلسطينيّين على الرضوخ لما يُسمّى "صفقة القرن"(1)، والذي يندرج أيضًا في خانة تحضير الأجواء لتوطين اللاجئين في أماكن تواجدهم، سيزيد من المشاكل التي تُعاني منها المُخيّمات، خاصة وأنّ نسبة البطالة في صُفوفهم بلغت في المرحلة الأخيرة آفاقُا غير مسبوقة مع نسبة فوق الـ70 %! ولا شكّ أنّ التنظيمات المُتشدّدة التي تلقى الدعم المالي من جهات إقليميّة مُتفرّقة ستُحاول إستغلال هذا الوضع المُتراجع داخل المُخيّمات، لإستمالة المزيد من الشُبان والمُراهقين العاطلين عن العمل، عبر رواتب مالية محدودة من جهة، وعبر تحريض سياسي وديني يستغلّ العوز والشُعور بالإضطهاد. وكل ما سبق لا يُبشّر بالخير بالنسبة إلى إمكان الإستمرار في ضبط أمن المُخيّمات بشكل سليم من جانب الجهات الفلسطينيّة المعنيّة، ما سيُلقي المزيد من الأعباء السياسيّة والأمنيّة على كاهل الدولة اللبنانية وأجهزتها.

ثانيًا: إنّ قرب صُدور قرار المحكمة الدَوليّة الخاصة بلبنان في الأشهر القليلة المُقبلة، والذي سيكون مَبنيًا على الإتهامات السابقة بحقّ أفراد من "​حزب الله​" سيُؤدّي إلى إعادة فتح جراح كان تجاوزها لبنان مع مرور الزمن، وسيُسفر عن إعادة رفع أجواء الغليان الشعبي تحت الرماد مع كل الإنعكاسات السلبيّة على الصعيدين السياسي والإعلامي في لبنان. وما لم تتعامل مُختلف القيادات المعنيّة بقرار المحكمة الخاصة بجريمة إغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري بشكل ذكي مع الإدانات التي ستُوجّه، فإنّ مزيدًا من الأحقاد ستتراكم بين اللبنانيّين مع كل ما يعنيه هذا الأمر من توتّر وإحتقان، خاصة إذا جاء التنصّل من قرارات المحكمة من باب التحدّي والسخرية والتهجّم السياسي والإعلامي وليس من باب إسقاط أيّ أدلّة قد يستند إليها قرار الإدانة المُرتقب بأدلّة تدحضها.

ثالثًا: إنّ إرتفاع وتيرة الضغط المالي-الإقتصادي في لبنان لا يُبشّر بدوره بالخير، مع ضرورة التمييز بين هذا الأمر من جهة وثبات سعر صرف الليرة من جهة أخرى. فإذا كان ​المصرف المركزي​ قادرًا على الحفاظ على ثبات الإستقرار النقدي لفترة طويلة، مُستعينًا بما يملكه من إحتياطي كبير من العُملات الأجنبيّة، فإنّه لا يستطيع عدم منع إنهيار الوضع الإقتصادي المُتراجع أصلاً في ظلّ التفاقم المُخيف لنسبة البطالة، وفي ظلّ الإرتفاع المُستمر للشركات وللمؤسّسات التي أقفلت أبوابها أو التي تُصنّف مُتعثّرة، مع كل ما يعنيه هذا الأمر من ضرب للإستقرار المعيشي والحياتي لعدد كبير من العائلات اللبنانيّة. وهذا الأمر لا يُحلّ على الإطلاق بتثبيت سعر صرف الليرة، إنّما بخطط سريعة تُعيد تنشيط الدورة الإقتصادية وتفتح فرص العمل أمام اللبنانيّين.

رابعًا: إنّ لبنان الغارق حتى أذنيه بصراع سياسي على السُلطة التنفيذيّة، يتجاهل المشاكل الجسيمة والمُنوّعة التي تراكمت عبر السنوات، والتي ستعود لتُطلّ برأسها من جديد في الأسابيع القليلة المُقبلة، وفي طليعتها قضيّة اللاعدالة واللامُساواة التي نجمت من تصحيح رواتب العاملين في القطاع العام والمُؤسّسات الأمنيّة الرسميّة، في ظلّ تراجع رواتب العاملين في ​القطاع الخاص​ وتقلّص قيمتها الشرائيّة. ويُنتظر في هذا السياق أن يبدأ تحرّك أكثر من إتحاد ونقابة وهيئة عُمّالية للمُطالبة بتصحيح رواتب القطاع الخاص، في الوقت الذي سيُعاود فيه المُعلّمون والأساتذة الذين يعملون لصالح مؤسّسات تربويّة خاصة تحرّكاتهم لمُساواة رواتبهم بنظرائهم في المؤسّسات التربويّة الرسميّة. من جهة أخرى، إنّ ​قطاع الكهرباء​ مُرشّح بدوره لأن يمرّ بفترة توتّر بسبب إستمرار سوء التغذية وغياب الحلول، وبسبب عودة الإرتفاع إلى أسعار المُشتقّات النفطية من بنزين ومازوت وغيرها، وكذلك بسبب الخلاف المُستجدّ بين وزارة النفط ومالكي ومُشغّلي المُولّدات الكهربائيّة الخاصة، إلخ.

خامسًا: إنّ الوضع في سوريا يمرّ حاليًا في مرحلة مخاض ولادة الحل-إذا جاز التعبير، وهذا الأمر سيفتح الباب على كثير من الضُغوط الإقليمية والدَوليّة التي قد يرتدّ جزء منها على الوضع الداخلي في لبنان الذي يُعاني منذ سنوات من عبء ضغط النازحين السُوريّين. وبالتالي، ما لم يلحظ أيّ حلّ نهائي مُرتقب في سوريا خريطة طريق لعودتهم بأعداد كبيرة وبشكل مُنظّم من لبنان، فإنّ هذا الملفّ سيبقى ضاغطًا على الدولة اللبنانيّة وعلى ​الشعب اللبناني​. من جهة أخرى، انّ أي فشل في تسوية وضع مُحافظة إدلب بشكل سلمي سيفتح الباب أمام جولة جديدة من القتال في سوريا، مع كل الإرتدادات السلبيّة لهذا الأمر على الداخل اللبناني المُنقسم إزاء الوضع والنظام في سوريا.

سادسًا: حتى في حال تشكيل الحُكومة وحلّ إشكالات الحصص والأحجام بكل إمتداداتها السياسيّة الداخليّة والخارجيّة، فإنّ مراحل أخرى من شدّ الحبال مُرتقبة على مُستوى الحُكومة، بدءًا بالبيان الوزاري وما سيتضمّنه من مواقف بالنسبة إلى المشاكل الإقليميّة والنأي بالنفس وُصولاً إلى طبيعة القرارات التي ستصدر عن السُلطة التنفيذيّة بعد عودة الكثير من الإنقسامات السياسيّة إلى الساحة بعد أن كانت قد غيّبتها إتفافات وتسويات السنتين الأخيرتين. من جهة أخرى، إنّ أي حُكومة مُقبلة لن تتسع لكل القوى السياسيّة اللبنانيّة، ما يعني أن أكثر من حزب وجهة سياسيّة ستكون خارجها وستسعى لإعتماد مواقف مُعارضة عالية السقف.

(1) عبارة عن مشروع حلّ نهائي للقضيّة الفلسطينيّة لكن وفق بُنود تصبّ في صالح الجانب الإسرائيلي بشكل كبير.