كان لقرار الإدارة الأميركية إلغاء 200 مليون دولار من المساعدات المالية التي تقدمها للسلطة ال​فلسطين​ية وقع الصاعقة التي هزت قيادات السلطة ومنظمة التحرير الفلسطينية، لما لهذا القرار من آثار سلبية على قدرة السلطة على توفير الاحتياجات الضرورية لبعض القطاعات المسؤولة عن إدارتها منذ دخول اتفاق ​أوسلو​ حيز التنفيذ سنة 1993، ما يعني أن السلطة ستكون عاجزة عن تأمين هذه الاحتياجات وكذلك رواتب الموظفين في قطاعات الصحة والتعليم والحكومة التي تعيش على المساعدات الأميركية، ولوحظ أنه تم صرف مبلغ 60 مليون دولار للسلطة مخصصة للبرامج الأمنية تهدف إلى تعزيز التنسيق الأمني بين أجهزة السلطة والأجهزة الاسراىيلية.

ردود فعل المسؤولين في السلطة وفي منظمة التحرير ركزت على الآتي:

ـ اعتبار القرار مجحفا ويفضح الإدارة الأميركية ومساعدتها الكاذبة في الحديث عن الوضع الإنساني في ​قطاع غزة​ وإنقاذ سكانه.

ـ يكشف ازدواجية المعايير الأميركية وعدم صدقية الإدارة الأميركية في الوقت الذي تسعى فيه لجمع أكبر عدد من الأطراف الإقليمية والدولية بغية تمرير حل سياسي عبر بوابة الوضع الاقتصادي غزة، وتقوم في الوقت ذاته بوقف المساعدات كافة.

ـ غير أخلاقي وإعلان فاضح وابتزاز رخيص لتحقيق مآرب سياسية، لكن ​الشعب الفلسطيني​ لن يخضع للإكراه والتهديد، كما أن الحقوق الفلسطينية ليست برسم البيع والمقايضة.

من الواضح أن الردود لم تتطرق إلى ماذا ستفعل السلطة ومنظمة التحرير، وكيف ستتصرفان إزاء ما يعتبر خروجا على اتفاق أوسلو، وهل ستبقى السلطة والمنظمة متمسكتين بالاتفاق وتحترمان تنفيذ بنوده التي تخدم كيان الاحتلال وتجعله ارخص احتلال في التاريخ لا يتحمل أعباء احتلاله، وتوفر له الظروف لتحقيق أهدافه ومخططاته، وما إذا كان القرار الأميركي، الذي أعقب الاعتراف ب​القدس​ عاصمة للدولة الصهيونية، وتقليص مساعدات ​أميركا​ للأونروا والعمل على شطب حق العودة في سياق الإصرار على فرض صفقة القرن لتصفية ​القضية الفلسطينية​، ماذا كان ذلك كافيا كي يتم أخذ قرار جريء وحاسم بالتوقف عن الاحترام المقدس للتنسيق الأمني مع أجهزة أمن الاحتلال لقمع المقاومين واعتقالهم، وبالتالي الخروج من أسر أوسلو والتبعية للأميركي الذي أراد من الاتفاق جعل السلطة والمنظمة تعتاشان على فتات المساعدات الأميركية الغربية و​الضرائب​ التي يجبيها كيان العدو لصالحهما ليسهل عليه ابتزازهما وإخضاعهما لشروط الحل الصهيوني التصفوي للقضية، أو على الأقل إجبارهما على عدم اتخاذ قرار التحرر نهائيا من شباك أوسلو لتبقى السلطة مجرد وسيلة أمنية لخدمة أمن الاحتلال وتوفر الغطاء له ليواصل عمليات تهويد الأرض الفلسطينية وبالتالي تشريع احتلال فلسطين.

باختصار لم نقع في ردود الفعل على أي موقف يدعو إلى التحرر من دائرة الارتهان للأميركي والصهيوني الذي نتج عن اتفاق أوسلو وحول منظمة التحرير، من حركة تحرر وطني تقود مقاومة الشعب ضد المحتل من أجل تحرير أرض فلسطين، كما فعلت حركات التحرر الوطني، من ​فيتنام​ إلى ​الجزائر​ مرورا ب​الصين​ وكوبا وصولا إلى ​لبنان​، حولها إلى منظمة تعتاش على مساعدات أعدائها حتى أصبحت مرتهنة وأسيرة لهم، وعرضة لابتزازهم.

جذر المشكلة والمصيبة أن قيادة منظمة التحرير صدقت أنها إذا تخلت عن كونها حركة تحرر وطني وقبلت، بموجب اتفاق أوسلو المشؤوم، بتقديم التنازلات عن قسم من الحقوق الوطنية لأعداء الشعب العربي الفلسطيني ، سوف تحصل على تنازلات مقابلة، أو تسليم من هؤلاء الأعداء بقسم من هذه الحقوق، وأن هؤلاء سيحترمون تعهداتهم والتزاماتهم. كما أن الكارثة الكبرى أن قيادة المنظمة صدقت بأن أميركا ستضغط على كيان الاحتلال للقبول بالتسوية التي تفضي إلى إقامة دولة فلسطينية على الأراضي الفلسطينية التي احتلت عام 1967، وتجاهلت بالتالي حقيقة أن أميركا إنما هي أكبر دولة استعمارية تولت دعم المشروع الصهيوني في فلسطين بعد تراجع قوة الإمبراطوريتين الاستعماريتين، ​بريطانيا​ و​فرنسا​، وذلك لخدمة المصالح الاستعمارية الأميركية الغربية في الوطن العربي، وان سياسة أميركا، التي قامت على نفي وتصفية الهنود الحمر سكان أميركا الأصليين، إنما هي الوجه الآخر للكيان الصهيوني الذي يسعى إلى نفي وجود الشعب الفلسطيني، فهي أي أميركا مماثلة لهذا الكيان من حيث النشأة والتكوين، وبنت إمبراطوريتها الاستعمارية على هذا الأساس، فكيف يجري المراهنة عليها في أن تكون على الحياد أو قوة ضغط على كيان الاحتلال!؟. كما أن الكارثة تكمن أيضا في أن قيادة منظمة التحرير تجاهلت حقيقة أن الارتهان للمساعدات المالية الأميركية الغربية سوف يجعل قرارها غير مستقل أسير التبعية لمن يدعم عدو الشعب الفلسطيني، وان سلاح المساعدات إنما هو سلاح تستخدمه الدول الاستعمارية وسيلة إخضاع وابتزاز لفرض شروطها واملاءاتها حتى على حلفائها، كما يحصل هذه الأيام، فكيف بمن يناضل ويقاوم كيان احتلالي استعماري صنعته هذه الدول الغربية الاستعمارية ليخدم مصالحها في الوطن العربي.

هذه الحقيقة والخلاصة التي يجب أن تقال ويعمل على أساسها فلسطينيا.. ليس هناك من حركة تحرر وطني في التاريخ تقاوم احتلالا يمكن أن تستمر في ذلك إذا لم يكن لديها استقلالية، وغير مرتهنة سياسيا وماديا لأعدائها. فالارتهان المادي يقود إلى التبعية السياسية والأمنية ، أليس هذا ما أصبحت عليه السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية، وكذلك منظمة التحرير التي جرى تجريدها من محتواها الوطني والقومي التحرري وتحويلها إلى رهينة تتحرك قياداتها تحت رقابة الاحتلال وتتنقل من مكان إلى مكان بإذن منه.

إن من يريد، فلسطينيا، أن تعود منظمة التحرير لتكون حركة تحرر وطني، قولا وفعلا ،شكلا ومضمونا، عليه أن يدرك كل هذه الحقائق، وعليه أن يعود ويقرأ من جديد تجارب حركات التحرر الوطني في العالم التي صنعت النصر على أعدائها ومحتلي أوطانها، وأن يستخلص من هذه التجارب الدروس والعبر لإعادة تأسيس وبناء حركة التحرر الوطني الفلسطينية، ببعدها العربي والأممي، ذلك أن لكل تجربة خصائصها المحلية، لكن هناك عوامل مشتركة توافرت لدى كل هذه الحركات التحررية كانت الأساس في تمكنها من بناء حركة مقاومة ملتزمة وملتصقة بالجماهير وخوض غمار نضال طويل بلا هوادة ضد المحتل والمستعمر والنجاح في استنزافه وتحقيق الانتصارات الجزئية والصغيرة وصولا إلى تحقيق الانتصارات الكبرى وإجبار قوات الاحتلال، في نهاية المطاف، على أخذ قرار الرحيل والانسحاب، بلا شرط أو أي ثمن، تحت ضربات المقاومة. هذه العوامل تكمن في توافر القيادة الثورية الواعية وغير المساومة، وامتلاك رؤية إستراتيجية، وبناء مقاومة شعبية ومسلحة على أساسها، وتجميع كل القوى والطاقات في إطار حركة التحرر على قاعدة مقاومة الاحتلال ورفض أي مساومة معه، مقاومة تملك الاستقلال الذاتي وتعتمد على دعم الأصدقاء الذين يرفضون الاحتلال والاستعمار، مقاومة تربط بين النضال الوطني والنضال الاجتماعي، قيادة مقاومة تملك فهما دقيقا للواقع والظروف المحلية، وطبيعة العدو، وقادرة على اعتماد تكتيكات تخدم الهدف الاستراتيجي الذي يتمثل في تحرير البلاد من الاحتلال، وعدم القبول بأي مساومة على أي جزء من الأرض، أو التهاون في العمل على تحقيق الاستقلال الوطني الكامل.