كانت أميركا ومَن معها مَن مكوّنات المعسكر الاستعماري الذي يشن حروباً متتالية ومتنوّعة الأشكال على المنطقة تأمل الوصول لحلمها ببناء شرق أوسط أميركي يكون بمثابة المستعمرة الاستراتيجية الكبرى التي تثبّت دعائم النظام العالمي الأحادي القطبية بقيادة أميركية. ولم تكن أميركا ومَن معها من القوى الرئيسية في الحلف الأطلسي تتصور أن أحداً يستطيع وقف هذا المشروع أو حتى عرقلته وتأخيره.

بيد أن الميدان كذّب توقّعات وخطط الرأس المدبّر لهذا المشروع الاستعماري الكارثي، حيث برزت في المنطقة قوى تدافع عنها باليسير من السلاح والوسائل، دفاعاً نجح في المرحلة الأولى في منع المستعمر من تنفيذ خطته بالشكل الذي وضعت، ثم تطوّر دفاعه إلى أن لامس اليوم عتبة مرحلة فقد فيها المعسكر الاستعماري زمام المبادرة في الميدان وانتقل هو الى دور العرقلة والتسويف لمنع أهل المنطقة وشعوبها ومكوّناتها السياسية الشرعية من استثمار نتائج الانتصار في الحرب الدفاعية التي خاضوها ضد المستعمِر والمحتل والمعتدي المتعدّد الوجوه والأشكال والوسائل والمحدّد جوهرياً بأميركا ومَن يتبعها من أوروبيين.

ولأن الهجوم الاستعماري المتعدّد الجبهات والوسائل هو في الأصل وفي جوهره واحد محدّد الهدف، كما ذكرنا يرمي الى وضع اليد على المنطقة ومصادرة ثرواتها ومنعها من إقامة الكيانات السياسية المستقلة السيدة التي توفر الحرية والأمن والرفاه لشعوبها، لأن هذه هي طبيعته وهدفه، فقد كان من المنطقي مواجهة الخطر والتهديد بفكرة جبهة الدفاع الواحدة المتماسكة، على أساس أن العدو واحد ومسرح العمليات واحد والهدف من الهجوم واحد. وهنا يكون من الخطأ الكبير والشنيع اللجوء الى التجزئة في الدفاع وشرذمة القوى والوقوع بما يخطّط من قبل المعتدي تحت شعار «فلان أولاً». والكل يذكر هنا كيف خرجت ولازالت أصوات المرتهنين لأميركا بالقول «لبنان أولا» او « العراق أولاً» او «غزة اولاً» الخ… هذا فضلاً عن الصيغ الغبية الخبيثة المعبر عنها ب​سياسة​ «الناي بالنفس» أو «الحياد» او «عدم التدخل بشؤون الغير» الخ …

والذي يؤسف له في هذا المجال أن المعتدي المنتهك للحقوق والمستبيح للكرامات والثروات يعطي لنفسه الحق بالاعتداء والتدخل وتشكيل التحالفات لتنفيذ عدوانه، بينما يُمنع على المعتدى عليه أن يبحث في هذه المعمورة عن حليف أو صديق يمدّ له يد العون للدفاع عن نفسه. والمثل الصارخ والمنفّر نجده في ما يقوم به معسكر العدوان على سورية حيث تجيز أميركا لنفسها إنشاء «تحالف دولي» تشارك فيه دول من أقاصي الأرض وعلى بعد عشرات آلاف الكيلومترات عن سورية للاعتداء على هذه الدولة واحتلال بعض أراضيها بحجة محاربة داعش التي أنشأتها وتتعهدها وتحميها، وترفض اميركا وتدين لجوء ​الحكومة السورية​ لطلب المساعدة من قوى كيانات تجاورها في المنطقة وتجمعها بها الأهداف والمصير المشترك والاستهداف العدواني ذاته.

بيد أن سورية، ومن يرى نظرتها الاستراتيجية الى الأمور لم تأبه لمواقف المعتدي، ولا لحجم العدوان والمشاركين به، وقرّرت المواجهة التي نفذتها هي في البداية ثم عبر محور المقاومة الذي يضمها الى ​إيران​ و​حزب الله​ وانتهاء بمعسكر الدفاع عن سورية الذي انتظمت فيه بجدارة وفعالية ​روسيا​، وتشكلت المواجهة في ذلك بين محورين: محور عدوان تقوده أميركا ومحور دفاع عن سورية.

والآن وصل الصراع إلى مرحلة نستطيع أن نصفها بأن المدافع عن نفسه نجح في الصمود وربح المعركة العسكرية في الميدان. وهذا ما يشهد به المعتدي ذاته قبل سواه. فبعد أن أكدت «إسرائيل» على لسان أكثر من مسؤول ومركز دراسات فيها بأن سورية انتصرت بقيادة الرئيس الأسد وأن أحداً لا يستطيع أن ينحي الأسد عن قيادته فيها، ها هو ماكرون الرئيس الفرنسي وقبله مسؤولون بريطانيون وأميركيون يقرون بل يؤكدون بأن سورية ربحت الحرب … لكنهم يضيفون وهنا الخبث والخطر وبيت القصيد، بأنها «لم تربح السلام». وما ينطبق على سورية ينطبق على حلفائها الاستراتيجيين أو حتى العرضيين.

إن قولهم «لم تربح السلام» فيه من المعاني ويبطن من الأهداف فوق ما يظهره النص بالدلالة البسيطة، حيث إن للسلام قواعد ومناهج وأسس تتبع للعودة الى الحال الطبيعية ويظهر في هذا المجال 5 ملفات أساسية لا بدّ من معالجتها للقول بأن الدولة خرجت من الحرب ودخلت «جنة السلام». أولها الملف الإنساني المتمثل بعودة النازحين إلى ديارهم التي أخلوها قسراً خلال الحرب، ثانيها بناء السلطة السياسية القادرة على جمع الكلمة وإدارة البلاد والسير فيها بما يناسب مصالح شعبها، ثالثها إطلاق ورشة إعادة إعمار ما دمّرته الحرب، رابعها إعادة ترميم وتنظيم مؤسسات الدولة الوطنية العسكرية والمدنية ومعالجة الندوب التي أصابتها خلال الحرب مع تفعيل دورها لضمان حقوق المواطن وأمنه، وخامسها إطلاق عجلة ​الاقتصاد​ الذي يؤمن للمواطن والشعب حاجاته ورفاهه.

فالسلام ليس كلمة تطلق جزافاً من غير أسس، بل هو منظومة قواعد وحياة وسلوك وتصرف تشعر المعنيين به بأنهم خرجوا من دائرة التهديد المتعدّد الوجوه ودخلوا في دائرة الطمأنينة على الوجود وتأمين الحاجات.

ولأن السلام هكذا، ولأن اميركا ومَن معها خسروا الحرب، فإننا نجدهم يخوضون الآن معركة منع إرساء السلام في كل نطاق وجبهة كان لها من عدوانهم نصيب. وبهذا يفسّر ما يجري في المنطقة من سلوكهم على كل الصعد، حيث إننا نراهم:

في سورية وبعد فشله في الميدان يجهد معسكر العدوان بقيادة أميركية، ومؤازرة من ​الأمم المتحدة​ والبيئات الدولية التي تدور في الفلك الأميركي وللأسف، يجهدون في منع عودة ​النازحين السوريين​ والذين يشكلون 1 5 خمس السوريين لأن في بقائهم حيث هم الآن خارج ديارهم إقفال لمعبر من معابر السلام السوري الذي تعرقله قوى العدوان. وكذلك نجد الوثيقة الأممية الفضيحة التي تشترط لإعادة الإعمار في سورية رضوخ سورية لمتطلبات معسكر العدوان في إقامة السلطة الدمية التي تلبي أوامرهم فيقومون بهذا من دون أن يلقوا بسلاحهم في الميدان. ومن هنا نفهم موقف ترامب الأخير الذي حذّر فيه سورية من خوض معركة إدلب وإنهاء الإرهاب فيها استكمالاً لحرب الدفاع والتطهير والتحرير.

وفي إيران التي تعتبر ركناً رئيسياً من أركان معسكر الدفاع عن المنطقة واستقلالها، فإن أميركا تلقي بكل قدراتها «غير العسكرية» لمحاصرتها والتضييق عليها وتفجيرها مدنياً من الداخل، لمنعها من استثمار انتصارها في الإقليم.

أما في العراق الذي تمكن من تطهير أرضه من المنظمة الإرهابية «داعش» التي جاءت بها اميركا الى العراق للسيطرة مجدداً عليه، فإن أميركا اليوم تتدخل وبكل فجور ووقاحة لعرقلة تشكيل حكومة وطنية مستقلة تقيم علاقات الاخوة والصداقة وحسن الجوار بين سورية والعراق وتصرّ أميركا على حكومة دمية بيدها وإلا فلا تكون حكومة.

والأمر ذاته يتكرّر في لبنان حيث إن القوى الرافضة للهيمنة الأميركية على لبنان وفي طليعتها حزب الله وحلفاؤه تمكنت من الحصول في الانتخابات النيابية الأخيرة على الأكثرية المطلقة في مجلس النواب ما يمكنها دستورياً من تشكيل حكومة تحكم بكل يقين، لكن أميركا ومستعملة أدوات محلية وإقليمية تمنع تشكيل هذه الحكومة، وتدفع لبنان والوطنيين فيه للخيار بين أمرين: إما التسليم بشروطها وجعل من يوالونها يمسكون بزمام الأمور، رغم أنهم لا يشكلون ثلث ​المجلس النيابي​ او إبقاء الدولة بلا حكومة فاعلة، رغم عظيم المخاطر التي تحدق بلبنان في هذا الفترة على أكثر من صعيد.

وهكذا نرى أن المنطقة التي أفشلت الغزو الغربي، هي عرضة اليوم لعدوان آخر عنوانه «منع تحقيق السلام». وهنا يكمن التحدي الكبير الذي لا يقلّ عن تحدي الحرب العسكرية والإرهابية التي شنت عليها، لا بل قد يفوقه أهمية وخطورة. ونرى مسؤولية بناء السلام مسؤولية يجب أن يضطلع بأعبائها الجميع تحت شعار تقديم المصلحة الوطنية والإقليمية على أي مصلحة ذاتية او فردية، شعار تستبدل فيها عبارة «الأنا أولاً» بعبارة «معاً نبني الوطن والمنطقة» القوية المستقلة. وبهذا الشعار نواجه ونبني السلام الذي فيه مصلحة الجميع.