ما لم تحمل الساعات القليلة المُقبلة تطوّرات مُهمّة على خط تأليف الحُكومة، فإنّ الأمور تتجه إلى مزيد من المُراوحة وإضاعة الوقت الثمين من "عُمر العهد"، لأسباب عدّة، هذه أبرزها:

أوّلاً: إنّ رئيس الجمهوريّة العماد ​ميشال عون​ سيُغادر إلى "ستراسبورغ" مطلع الأسبوع المُقبل للمُشاركة في إفتتاح أعمال ​البرلمان الأوروبي​. كما أنّ جدول أعماله يتضمّن التوجّه إلى نيويورك حيث سيرأس وفد لبنان إلى إجتماعات الجمعيّة العُموميّة للأمم المتحدة التي ستعقد بين 23 و26 أيلول الحالي، وكذلك التوجّه إلى يريفان بين 11 و13 تشرين الأوّل المُقبل للمُشاركة في أعمال قِمّة المؤتمر الفرنكوفوني. وعلى خط رئيس الحكومة المُكلّف ​سعد الحريري​، فهو سيتوجّه بدوره الأسبوع المقبل إلى ​لاهاي​ للمُشاركة شخصيًا في جانب من جلسات المرافعة الختامية للمحكمة الدَوليّة الخاصة بلبنان، في رسالة قويّة منه إلى من يُقلّلون من شأن هذه المحكمة ويسخرون من إتهاماتها. إشارة إلى أنّ جلسات المرافعات المذكورة ستُعقد بين 11 و21 أيلول الحالي، وهي ستتضمّن تقريرًا إتهاميًا جديدًا ومُتكاملاً في جريمة إغتيال رئيس الوزراء الأسبق ​رفيق الحريري​. وهذا يعني أنّ المسؤولَين الرئيسيَّين عن تشكيل الحُكومة الجديدة سيغيبان عن لبنان لفترات عدّة في الأسابيع القليلة المُقبلة، ما سيُؤثّر سلبًا على زخم إتصالات التأليف.

ثانيًا: إنّ الخلاف على توزيع الحُصص الوزاريّة لا يزال على حاله، حيث يَعتبر رئيس الحُكومة المُكلّف أنّ تشكيل حُكومة جديدة بتوازنات سياسيّة وحزبيّة مُشابهة لتوازنات حُكومة تصريف الأعمال الحاليّة، أي منصب رئيس الحكومة إضافة إلى 12 وزيرًا لكل من ثُلاثي "المُستقبل" و"القوات" و"الإشتراكي"، في مُقابل 7 وزراء لكل من "​حزب الله​" و"أمل" و"المردة" و10 وزراء لكل من رئيس الجمهورية و"التيّار"، هو عادل ومُنصف للجميع، بينما يَعتبر "الوطني الحُرّ" وبعض قوى "8 آذار" أنّ الإبقاء على نفس توازنات الحُكومة الحالية يتجاهل النتائج التي ظهرت خلال الإنتخابات النيابيّة الأخيرة، والتي شهدت تراجعًا كبيرًا لعدد نوّاب كتلة "المُستقبل". لكنّ مصادر هذا الأخير تردّ بأنّ التوزيع السياسي والحزبي في حُكومة تصريف الأعمال الحالية لم يكن يُعبّر بدقّة عن الحجم النيابي لكل طرف، بل شكّل في حينه تنازلاً كبيرًا من جانب "التيّار الأزرق" لإنجاح "التسوية الرئاسيّة" التي حصلت آنذاك.

ثالثًا: كان يُعتقد في مرحلة سابقة أنّه ما أن يتمّ التوافق على توزيع الحصص الوزاريّة لمُختلف الأفرقاء حتى تُولد الحُكومة خلال بضعة أيّام، باعتبار أنّ الوزارات السياديّة الأربعة مُوزّعة سلفًا(1)، وكذلك باعتبار أنّ الوزارات الخدماتية ووزارات الدولة ستوزّع بشكل تلقائي على مختلف القوى الأساسيّة، بمعدّل وزير خدماتي ووزير دولة لكل جهة. لكن تبيّن بعد رفض منح "القوّات" أي وزارة سياديّة، وسحب منصب نائب رئيس الحُكومة منها وتمسّك رئيس الجمهورية به(2)، أنّ "القوّات" ترفض الحُصول على وزارة دولة، وتُطالب بحقائب وازنة وإلا فبوزارة سياديّة إلى جانب وزارة دولة، الأمر الذي أعاد خلط أوراق توزيع الحقائب ككل، خاصة وأنّ إصرار "تيّار المردة"–مدعومًا من قوى سياسيّة عدّة، على الحُصول على حقيبة "الأشغال" الخدماتيّة بامتياز، زاد من تعقيد التوزيع النهائي لهذه الحقائب.

رابعًا: إنّ الحديث المُتزايد عن تحرّك مُرتقب لرئيس الجمهوريّة للضغط بإتجاه تشكيل الحُكومة، من خلال مثلاً توجيه رسالة إلى المجلس النيابي-بحسب السُلطات المُعطاة له في الدُستور(3)، يحثّ فيها النوّاب على التحرّك سريعًا لتأمين تشكيل الحُكومة وإنتظام عمل السُلطتين التنفيذيّة والتشريعيّة، قد يُؤدّي إلى نتائج مُعاكسة لما هو منشود، لأنّ من شأن هذه الخُطوة أن تنقل الخلافات الحالية التي تعيق تأليف الحُكومة من صراع سياسي على النُفوذ والحُكم، إلى صراع على السُلطة بخلفيّات طائفيّة ومذهبيّة. وهذا ما تبيّن عند التلويح بضرورة تحديد مهلة لعمليّة تأليف الحُكومة، حيث إلتفّت قيادات الطائفة السُنّية–بغضّ النظر عن موقعها السياسي، خلف رئيس الحُكومة المُكلّف، تحت شعار حماية صلاحيّاته ورفض المسّ بها. وفي السياق، عينه، إنّ وُصول أي رسالة "رئاسيّة" إلى مجلس النوّاب، قد تدفع برئيس ​مجلس النواب​ نبيه برّي الذي أكّد حقّ رئيس الجُمهورية القيام بهذه الخطوة، إلى تخصيص جلسة لها، بُحضور العماد عون شخصيًا أو من دونه، لكنّ برّي لن يقبل برمي كرة التشكيل في ملعبه لأنّه يعتبر أنّه من المُسهّلين وليس من المُعرقلين، ولأنّه يرفض الإنحياز لأي طرف في أي نزاع دُستوري أو على السُلطات المَمنوحة لكل من رئيس الجمهورية أو رئيس الحُكومة، ما يعني عدم توقّع الكثير من أي رسالة، باستثناء الوقع المعنوي.

في الخُلاصة، يبدو أنّ عمليّة تشكيل الحُكومة لا تزال تدور في حلقة مُفرغة، من دون توقّع أي إنفراجات خلال الأسابيع القليلة المُقبلة. وما لم تحصل تنازلات مُهمّة من قبل أكثر من طرف، فإنّ لا حكومة في المدى المَنظور، إلا إذا كان البعض يُخفي تحرّكات ضاغطة غير تلك المُنصوص عنها في الدُستور، وعندها ستكون الأبواب مفتوحة، بل مُشرّعة، على كل الإحتمالات داخليًا!.

(1) على كل من رئيس الجمهوريّة (الدفاع) و"التيّار" (الخارجيّة) و"المُستقبل" (الداخليّة) و"أمل" (الماليّة).

(2) سيُمنح هذا المنصب على الأرجح لنجل نائب رئيس الوزراء السابق، نجاد ​عصام فارس​.

(3) بحسب ما جاء في البند العاشر من المادة 53 من الدُستور (يُوجّه عندما تقتضي الضرورة رسائل إلى مجلس النوّاب).