صحيح أنّ رئيس حزب «القوات ال​لبنان​ية» ​سمير جعجع​ خصّص فقرة مختصرة لـ«​حزب الله​» في خطابه الأخير، لكنّ الصحيح أيضاً أنّ هذا الجزء من كلامه كان غنيّاً بالدلالات لجهة النبرة الهادئة التي استخدمها في مخاطبة من سمّاهم «الإخوان» في الحزب، مع ما تحمله هذه «الملاطفة» من إشارة وديّة في اتّجاه «حارة حريك». ولكن ما هي أبعاد الانفتاح «القوّاتي» على «الحزب»؟ وهل يمكن التأسيس سياسيّاً عليه؟ أم أنّه مجرّد انفتاح شكليّ يفتقر إلى مضمون صلب؟

ليس خافياً انّ اسلوب جعجع في التعاطي مع «حزب الله» بات اكثر مرونة من السابق، وبالتالي فإنّ أدبياته السياسية في هذا المجال أصبحت اقلّ حدّة قياساً على قاموس المرحلة الماضية، كما اتّضح من خطاب الأحد الماضي، لكنّ الأكيد أنّ هذه الليونة لم تتجاوز بعد سقف «السلوك التكتيكي»، في ظلّ استمرار الخلاف الاستراتيجي المستحكم بين الجانبين حول قضايا حيويّة تبدأ من ​سلاح المقاومة​ ولا تنتهي عند طريقة مقاربة تحدّيات المنطقة.

ومن المعروف انّ كلّاً من «الحزب» و»القوات» ينتمي الى محور اقليمي في مواجهة المحور الآخر، ربطاً بتحالفات وخيارات متعارضة كلياً، ما يعني انّ هامش التلاقي بينهما ليس واسعاً الى الحدّ الذي يسمح بانجاز تفاهمات سياسية عميقة في هذه اللحظة. أقصى ما يمكن افتراضه هو نوع من «ربط النزاع» الذي يعتمد على التحييد النسبي للملفات الخلافية الاستراتيجية ومحاولة إيجاد تقاطعات حول مسائل داخلية، من قبيل التعاون في ​مكافحة الفساد​ ضمن مؤسسات الدولة التي تجمعهما، وتحديداً مجلسي النواب والوزراء.

وهناك من يتوقع تعزيز التواصل بين الطرفين على مستويي السلطتين التنفيذية والتشريعية في المرحلة المقبلة، تحت سقف القضايا التي تهمّ الناس وتحاكي همومهم، ما دام ايّ تفاوض سياسي حول المسائل الكبرى لن يصل الى نتيجة في الوقت الحاضر.

وما تجدر الإشارة إليه في هذا السياق، انّ «حزب الله» كان قد أعطى سابقاً أكثر من إشارة الى واقعيّته في التعامل مع «القوات»، سواء لناحية الإقرار بحجمها التمثيلي، أو لناحية التشديد على ضرورة تأليف حكومة وحدة وطنية، تضمّ الجميع ولا تستثني أحداً. لكنّ «الحزب» لا يتوهّم في الوقت ذاته انّ هناك فرصة حقيقية حاليّاً للذهاب أبعد من هذا المقدار من البراغماتية، خصوصاً انّه لم يلمس بعد وجود أيّ تغيير في جوهر خيارات جعجع المعترض على بقاء سلاح المقاومة وتدخّل الحزب في ​سوريا​.

وعلى قاعدة البراغماتية التي تتحكم بقواعد التعاطي بين «حزب الله» والقوى المعترضة على نهجه، عُلم انّ الرئيس ​سعد الحريري​ الذي وصل الى ​لاهاي​ أمس لحضور جلسة ​المحكمة الدولية​، بَعث - بعد تحذير ​السيد حسن نصرالله​ من اللعب بالنار- رسالة عبر أقنية خلفية الى قيادة الحزب مفادها: «طوّلوا بالكم.. أنا أعلم انّ البلد لا يُبنى إلّا معكم وانّ ​الحكومة​ لا تتشكّل من دونكم»..

جعجع لـ«الحزب»: تحميني وأحميك

أمّا بالنسبة الى اللهجة المعتدلة التي توجّه بها جعجع الى «حزب الله» في احتفال الأحد، فانّها تعكس في رأي شخصية مسيحية قريبة من ​معراب​، رغبة رئيس «القوات» في فتح الابواب أمام حزب الله «اللبناني»، على قاعدة العودة من سوريا وبقية جبهات المنطقة، الأمر الذي سيؤدّي عندها الى اتّساع المساحات المشتركة تلقائياً. وتعتقد تلك الشخصية انّ مخاطبة جعجع للحزب بـ«الإخوان» كانت مقصودة عن سابق تصوّر وتصميم، انطلاقاً من اقتناعه بأنّ «الحزب» هو في نهاية المطاف شريك في الوطن، والمطلوب عودته الى الوطن.

وتلفت الشخصية نفسها الى انّ نبرة جعجع المرنة حيال «الحزب»، في هذا التوقيت تحديداً، انّما تندرج بالدرجة الاولى في اطار محاولة تحصين لبنان وتحييده عن عواصف المنطقة التي قد تشتدّ لاحقاً، وكأنّ جعجع يعرض على الحزب «تبادل الحماية» تحت سقف المعادلة الآتية: «إنت تحميني وأنا أحميك»..

وضمن هذا الإطار، تعتبر الشخصية ​المسيحية​ القريبة من معراب انّ «الحزب» مدعو الى تفهّم مشاعر شريحة من اللبنانيين ترفض التطبيع مع ​النظام السوري​، وهو مُطالب بأن يستخدم نفوذه لمنع عودة التدخّل السوري في الشأن اللبناني.

وتتوقف الشخصية إيّاها عند جانب آخر في خطاب جعجع، يتعلّق بالساحة المسيحية تحديداً، ملاحظة انّ رئيس «القوات» أراد عبر تمسّكه بالمصالحة أن يقول لجمهور «التيّار الوطنيّ الحرّ» انّ المشكلة الحالية هي مع الوزير ​جبران باسيل​ حصراً، ولا توجد في الأساس أزمة بنيوية مع «التيّار»، وانّه حتى نزاعات الماضي كانت بمثابة عوارض جانبية، وليست أصل القضية التي كانت ولا تزال تحملها «القوات اللبنانية».

وتشير هذه الشخصية الى انّ انفتاح جعجع على كلّ من الرئيس نبيه برّي ورئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» ​وليد جنبلاط​ ورئيس تيار «المردة» ​سليمان فرنجية​، الى جانب تمكّنه من استعادة التحالف المتين مع الحريري، وتخفيف التشنّج مع «حزب الله».. كلّها مؤشرات توحي بأنّ العماد ​ميشال عون​ ربح الرئاسة بينما جعجع يتمدّد في الجمهورية عبر شبكة من التحالفات والتقاطعات السياسية.

إنطباعات «​8 آذار​»

على الضفّة الأخرى، يعتبر قيادي في 8 آذار انّ انفتاح رئيس «القوات» على «حزب الله» يوحي بالاستنتاجات الآتية:

-انّ جعجع يقرأ جيداً المتغيرات الإقليمية التي تعطي الأرجحيّة لـ«ص ص حزب الله»، ولذلك هو يسعى الى «مغازلة» المنتصر.

- انّ جعجع يعتبر نفسه مرشحاً دائماً ل​رئاسة الجمهورية​، ويهمّه أن يمدّ جسوراً او خيوطاً مع الحزب الذي هو الناخب الأكبر على الصعيد الداخلي، «لعلّ وعسى..»

- انّ جعجع يرمي ايضاً عبر مهادنة «الحزب» الى تحسين موقعه في معركته السياسية مع باسيل، وهو يريد ان يوحي لـ«التيّار الوطنيّ الحرّ»، وكذلك لعون انّ في إمكانه توسيع بيكار علاقاته ورقعة انتشاره السياسي وصولاً الى فتح نافذة على «حزب الله»، ردّاً على المسعى الهادف الى محاصرته.

- انّ الإيجابية التي عكسها جعجع حيال «الحزب» مفيدة في التهدئة الداخلية وتنظيم الخلاف، لكن لا يمكن تحميلها أكثر مما تتحمل على مستوى الوزن السياسي الصافي، ما دام رئيس «القوات» يتّخذ موقفاً سلبياً من سلاح المقاومة ودورها، وينخرط في محور خارجي يعاديها.

- انّ مطالبة جعجع لـ«الحزب» بالعودة من سوريا تجاوزتها الأحداث والتطورات، إذ انّ مجمل الحرب العسكرية في سوريا تكاد تنتهي بالانتصار الكبير لمحور المقاومة، والحزب أنجز جانباً كبيراً من مهمته هناك.

- انّ ​المؤسسات الدستورية​ تجمع «الحزب» و«القوات»، والتعاون الموضعي بينهما تحت المظلتين النيابية والوزارية قائم وقابل للاستمرار من أجل خدمة مصالح المواطنين والنهوض بالدولة.