بين العام 2005 والعام 2018، 13 سنة من الممارسة السياسية، جعلت من رئيس الحكومة المكلف حالياً ​سعد الحريري​ شخصية سياسية مغايرة لما كانت عليه في تلك الحقبة. صحيح انه لا يزال ينقص الكثير من المزايا والصفات ليتحول الحريري الابن الى الشخصية السياسية التي يطمح اليها، ولكن بالتأكيد لم يبق في المكان الذي تواجد فيه عام 2005. تغييرات كثيرة طرأت على الوضع الاقليمي والدولي، ومتاريس سياسية عديدة تم نصبها وازالتها ثم اعادة توزيعها على الساحة الداخلية، كلها ساهمت في حصول تغيير ما في مواقف وآراء الحريري السياسية، وآخرها ما قاله من ​لاهاي​ بعد جلسة الاستماع الاولى خلال اطلالته الاعلامية. الكلام الصادر عن سعد الحريري في لاهاي، كان مدروساً وراعى حساسيّة الوضع في لبنان ويمكن وضعه في اطار قراءة موضوعية ومنطقية لمجرى الاحداث، او في خانة التمهيد لمسيرة سياسية طويلة في لبنان.

كان من المتعارف عليه ان اي مسؤول سياسي لبناني يتواجد في لحظة كتلك التي تواجد فيها الحريري امام ​المحكمة الدولية الخاصة بلبنان​، سيعمل على استثارة العواطف واستغلال اللحظة والتحدث بصيغة قد تثير المشاكل والسجالات العنيفة في لبنان، الا ان اللهجة التي تحدّث بها الحريري كانت مقبولة وحافظت على الاجواء الحاليّة السائدة في البلد، دون ان تزيد من حدّة التوتر السياسي القائم. مرد هذه المواقف "الحريرية" قد يؤشر الى انه بات يدرك بعد 13 عاماً على عمر التحقيقات الدولية وانشاء المحكمة، انه من الصعوبة بمكان الوصول الى الحقيقة المطلقة في قضية اغتيال والده، وان جلّ ما يمكن ان تصل اليه الامور هو تسمية بعض الاشخاص، وربما اصدار حكم بحقّهم دون القدرة على تنفيذ الحكم لعدم العثور عليهم، او بسبب وفاتهم او اختفائهم بشكل كامل، وفي الحالتين لن يغدو الحكم اذا طال انتظاره سوى مكسب معنوي للحريري اولاً ول​تيار المستقبل​ ثانياً، ولا شك انه سيتمّ استغلاله انما ضمن السقف الموضوع، والذي لن يؤدي الى خلاف داخلي او مواجهات من شأنها زعزعة الاستقرار والامن في لبنان.

ويعتبر الكثيرون ان السبب الآخر لمواقف الحريري من لاهاي، نابع من اختباره اهمية التضامن الداخلي الذي وان لم يؤثر في مواضيع اقليمية ودولية، غير انه يتمتع بثقل اكيد ووازن في المعادلات الداخلية، على غرار ما حصل عندما تم احتجاز الحريري في ​السعودية​ ووقوف الجميع في حينه الى جانبه، ما اعطى دافعاً مهماً لحصول تحرك خارجي دولي فعل فعله وادى الى النتيجة المرجوة. ومن الممكن ان يشكل هذا الموقف الاخير للحريري سبباً لاستمرار حياته السياسية لفترة طويلة، في مقابل الخطاب العالي السقف والقاسي الذي تعتمده شخصيات سنيّة مرشحة من قبل جهات داخلية وخارجية للعب دور رئيسي في الحياة اللبنانية. وبهذا المعنى يكون الحريري قد ضمن بشكل شبه كامل تفوقه على غيره من ابناء طائفته لاستلام دفّة القيادة السياسيّة لاعلى منصب سنّي في لبنان اي ​رئاسة الحكومة​.

والأهم من كل ذلك، ان مثل هذه المواقف مطلوبة في هذه الفترة، لعدم الاطاحة بكل ما تم تحقيقه من معادلات وحسابات سياسية داخلية، رغم كل الجهود التي يبذلها اناس من الداخل والخارج لابقاء التوتر والخلاف بين الاطراف اللبنانية على حاله، ومن المنطقي ان تجد مواقف الحريري من يلاقيها في منتصف الطريق.

الكلام الذي صدر من لاهاي لا يعني ان الامور انتظمت وان الخلافات قد حلّت، ولكنه يعني ان الاوضاع السياسية ليست متجهة الى تفاقم او الى اعتماد التصعيد والسلبية، ولن يعني ايضاً استقرار الخطاب والسجال بين ​حزب الله​ وتيار المستقبل، ولكنه يطمئن الى ان المسألة لن تصل الى حدود صراع سنّي-شيعي يتخوف منه كثيرون، ليس فقط في لبنان، بل في المنطقة ككل.