كان تكوين الإنسانية الطبيعي وبلوغها العام يحصل عبر الدوائر التقليدية المألوفة أعني الأرحام والبيوت و​المدارس​ و​الجامعات​ والمجتمعات والدول تكتنفها سبع محطاتٍ من الفطام. وصارت البشرية أسيرة سجن كوني يرميها في شهوة جامحة شاملةوعبثية في حاجات التواصل،وتشهد تباعاً إنسحاب السلطات من هذه الدوائر بما يبهتالمقدّس أمام فورانالغرائز وحشرالأجيال في إنسحاقهملتقنيات العصر المدهش وتطبيقاته.

كيف؟

لنمهّدبأنّ ماكنتوش بتشوّهات تفاحته المقضومة المنتشرة بين أصابع البشر في الأرض أدقّ من حشرةٍ في أرض الخالق، لكنّه الحاكم الأوحد للبشرية عبر الشركات التواصلية العملاقة التي تبلع الفكر والسلوك والقرار.

أوّلاً:تعتبردائرة التكوّن في الرحم ​القاعدة​ ونقطة الأرتكاز. وأهمّ ما فيها وأكثره قوّة وبلاغةً ليس تلك الهندسة الإلهية في نمو الجنين وتطوره خلال رحلته نحو العالم عبر الشهور التسعليدمغ عظمة الخلق على صورة الله ومثاله، بل في ما يجهله العديد من الناس. أخبرني طبيب عربي بارعمتخصّص في المجالويعمل في الولايات المتّحدة الأميركية فقزّمني الى حدود أصغر من نملةٍ تدبّ في دنيا من الخشوع ويقظة الإيمان.قال: تصوّر أنّ لحظة التلاقح التي تجمع ذكراً وأنثى بنيّة الإنجاب والتي لا يمكن قياسها علميّاً، ينبثق معها ما يشابهشعاع أو برق لطيف سحري كان لا يمكن رؤيتهأو إدراكه أورسمهامن قبل. تلك البرقة/الصوت صار يمكن رصده طبيّاً وتقنيّاً.

هل فهمت ما أقصد؟

لويت عنقي مندهشاً علامة الجهل.

قال : تلك اللحظة/ البرقة/ هي أوّل ضربةٍللقلب تعلن بأنّ أنساناً جديداً بدأ قلبه ينبض. تنساب تلك الضربات للقلب من دون توقّف فتروح تنسج خلاياإكتمال القلب وأعضاء المضغة فالجنين عبر محطّاتٍ شديدة الدقّة متكاملة نستطيع تقفّي خطواتها ومتابعتها أسبوعاً فأسبوع.إنّها تتجاوز كلّ عقل وتصوّر أو فهم وهي المؤشّر الأعظم لما نسميّه بالطاقة الإلهية التي لن يتمكّن العلم ولن يتمكّن من تحديد عدد تلك الضربات أي مدى عمر الوليد بعد خروجه الى العالم وصولاً الى ​الشيخوخة​. يمكنك أن تسمّي قطع حبل الصرّة بين الأم والوليد الفطام الإلهي الأوّل. في تلك اللحظة الثانية يبدأ عبث البشر فيخرجوابالمولود من إكتماله الأوّل والأعظم في رحم أمّه ويبدأ رحلة خسارة توازنه الجسدي والغذائي وخربطة خريطة الكمال لديه كمخلوق.

تحتلّ دائرة النمو والتربية في المنزل بعد ذلك حيث الرضاعة والتغذية وخلخلة الهندسة الخاضعة للعلوم والكشوفات والتي تحمل الكثير من الخلل والعبث والتجارب المتكاملة والمتناقضة كما الإجتماعية وتشعبات القرابة والإدراك والأحاسيس والنطق ونقل القيم والأفكار. إنّ اللحظة الأقسى في هذه الدائرة هي الفطام عن ثديي الأمّ أو ما يعرفونه بالفطام الثاني.

يليه الفطام الثالث عندما يغادر الأطفال منازل ذويهم نحو ​دور الحضانة​، ومعه نرى الأهالي يتسمّرون دامعين عند أبواب الحضانات والعديد من أطفالهم يصرخون رفضاً هذا الفطام القاسي في الرحلة ​الجديدة​.

تتوسّع مدارك الأطفال في الترقي من الحضانات الى المدارس بمراحلها المختلفة حيث تخفّ حدّة الفطام الرابع وفقاً للأربطة بين ​الحياة​ المنزلية والحياة المدرسية إذ يدخل الأولاد صفوفاً يتدرّجون فوق ​سلالم​ العلم والتمييز بين الخير والشرّ والصحيح والخطأ وغيرها من مناهج التعلّم والترقي والتهذيب وصولاً إلى ما يمكن تسميته بالفطام الخامس الممتع واللذيذ والمغمّس بالشعور بالإستقلالية وتلمّس الذات والحرية والتأهّل بعد سنوات إلى مغادرة الأحرام الجامعية حيث يعتبر هذا الخروج أو التخرّج الفطام السادس الأقسى والأمتع عندما عندما تنتصب الدنيا في الوجوه والإنخراط في المجتمعات بهدف الإنتاج والعملوالإستقلال نحو صرف ما تبقّى من ضربات القلب حيث الموت أو الفطام السابع.

ثانياً: من المولود بصورته الأولى في حضن أمه وسبابته فوق مواقع التواصل إلى تهافت البشر لحجز المواقع والنوافذ الإلكترونية أوLand claim، يكفي إبتكار فكرةً أو مشروعاً وحجز موقع يسميه، ومنه يتّصل ويحيا في حقائق واقعية وخيالية وفي نيته سلطة لامتناهية يحتلّبها الكرة الأرضية.بهذه الصورة، نستعيد تاريخ ​أميركا​ بعدما اكتشفها كولومبوس، حيث كان يكفي لأيّ عابر فوق حصان وبيده بندقية إحتلال قطعةً أرض لتصبح ملكه وميداناً ينطلق منه في تحقيق سلطاته ومراميه. نعيش اليوم في ​الفضاء​ حيث الفطام الكوني الذييعزّز بالتواصلتراكم القطيعة الهائل بين القديم والجديد والحديث والمعاصر ويجمّل الأزمات والفردانيات والوحدانياتوتفريغ الموت من مضامينه.تتماهى الأجيال بالوسائل والصور السريعة الإندثارلتصبح محكومة بالصفات عينها، وخصوصاً لذةالإضمحلال وطغيان المعاصرة والإنتحارات البطيئة والساخنة وكلّها تحقيق لـلإنتاجوالاستهلاك. يتمّ تبادل الأدوار بين الأجيال فيذوي كلّ الفكر المبني على المعرفة بهدف إمتلاك الخبرة ونرى الدنيا مأخوذة بحواسها الخمس بالماوس.

القليل من المعرفة مع الكثير من الخبرةهي القاعدة الأمثل لترسيخ الفطام العالمي الإنسانيوتأكيد فكرة ضياع الحضارة أو موتها قبل البلوغ.