كان من المتوقع أن تتحسّن العلاقة بين "​التيار الوطني الحر​" و"​تيار المردة​" بعد الانتخابات النيابية، أسوة بتلك التي تجمع بين الأول ورئيس مجلس النواب نبيه بري، انطلاقاً ممّا حُكي عن "مبادرة" تولاها "الحليف المشترك"، أي "حزب الله"، كان أمينه العام السيد حسن نصر الله مهّد لها بشكلٍ أو بآخر قبل الانتخابات.

لم يحصل شيءٌ من هذا القبيل، وبقيت العلاقات "مقطوعة"، في ظلّ ما يشبه "الهدنة غير المُعلَنة" بين الجانبين، إلى أن تدهورت بشكلٍ مفاجئ في الأسبوعين الماضيين، وتحديداً بعد وفاة روبير فرنجية، نجل الرئيس الراحل ​سليمان فرنجية​ وعمّ الوزير السابق سليمان فرنجية.

فبدل أن يكون العزاء بالراحل مناسبة لجمع الأضداد، كما راهن البعض، تحوّل إلى سببٍ لتعميق الخلاف أكثر، خلافٌ يبدو واضحاً أنّه يشكّل "عقدة مستترة" في تأليف الحكومة، محورها حقيبة الأشغال التي يتولاها "المردة" حالياً...

الوسطاء استسلموا؟

لا تبدو العلاقة بين "التيار الوطني الحر" و"تيار المردة" مفهومة بالنسبة لكثيرين، فالحزبان اللذان لا ينكر أحد أنّهما الأقرب في الفكر والاستراتيجية إلى بعضهما على الساحة المسيحية، واللذان قدّما في مرحلةٍ من المراحل نموذجاً يُحتذى في العلاقات، وصلت إلى حدّ ما يشبه "الذوبان" من دون أن يقع فيه، باتا اليوم عملياً الأبعد عن بعضهما، لاعتباراتٍ تتخطى الانتخابات الرئاسيّة الأخيرة، التي يفترض أنّها أصبحت من الماضي.

ولعلّ المفارقة التي يسجّلها المراقبون على هذا الصعيد هي أنّ كلاً من "التيار الوطني الحر" و"تيار المردة" أثبت في معركته "الشخصية"، القدرة على الانفتاح على "خصوم تاريخيين" لم يكن أحد ليخال إمكانية جمعهم في صورةٍ واحدة، فقط من باب "النكاية" بالطرف الآخر، من دون أيّ مبرّر جدّي آخر. هكذا، اختار "الوطني الحر" مثلاً التفاهم مع "القوات اللبنانية" رداً على ترشيح فرنجية إلى الرئاسة، ثمّ ذهب للتحالف في الانتخابات النيابية مع رئيس "حركة الاستقلال" ميشال معوض، متجاوزاً خلافاتٍ جوهرية لا تزال موجودة، رغم انضمام معوض إلى تكتل "لبنان القوي".

وفي المقابل، لا تبدو تفاهمات "المردة" أفضل حالاً، فهي بدورها استندت إلى معايير "النكاية" ولا شيء غيرها. هكذا، تحالف التيار الشمالي مع النائب السابق بطرس حرب في الانتخابات النيابية الأخيرة، نكاية برئيس "التيار الوطني الحر" وزير الخارجية ​جبران باسيل​، انطلاقاً من "رمزية" الصراع "التاريخي" بين الرجلين على المقعد النيابي في البترون. وذهب "المردة" أبعد من ذلك بانفتاحه على "القوات اللبنانية" التي يحمّلها مسؤولية "مجزرة إهدن"، والتي كانت السبب سابقاً في استبعاد حصول مجرد "مصافحة" بين فرنجية ورئيس حزب "القوات" سمير جعجع، إذا ما التقيا من باب الصدفة، ليس أكثر.

ولأنّ الرهان على "العزاء" بنجل الرئيس الراحل سليمان فرنجية، روبير فرنجية، لتقريب المسافات بين الجانبين باء بالفشل، بعد رفض رئيس تيار "المردة" الرد على اتصال باسيل لمواساته، بعد "امتعاضه" بسبب "تغريدة" للأخير، يقول "العونيون" إنّها "حُمّلت ما لا تحمل"، ثمّة من يقول إنّ "الوسطاء" بينهما أعلنوا "الاستسلام"، لأنّه كلما برزت ملامح إمكان حصول تقاربٍ، يتطوّع أحدهما لتبديده، وكأنّهما متفاهمان على تكريس الخلاف والاختلاف، مهما كان ثمن ذلك.

عقدة الأشغال...

بخلاف ما يعتقد كثيرون، فإنّ للصراع بين "الوطني الحر" و"تيار المردة" ترجمة في ملف تشكيل الحكومة، تتمثل بما يمكن تسميتها بـ"عقدة حقيبة الأشغال"، ولو كانت الأضواء غير مسلطة عليها، أمام العقدتين المسيحية بين "التيار" و"القوات"، والدرزية بين "التيار" والوزير طلال أرسلان و"الحزب التقدمي الاشتراكي" بالدرجة الأولى، والعقدة السنية بين "تيار المستقبل" والنواب السنة المستقلين بالدرجة الثانية.

فبالإضافة إلى هذه العقد التي حظيت بالإضاءة الإعلامية اللازمة، ثمّة "عقدة" يعتبرها المعنيّون بها أكثر من أساسية تتعلق بحقيبة الأشغال، التي يصرّ تيار "المردة" على التمسّك بها في الحكومة الجديدة، أو استبدالها بحقيبة الطاقة التي يصرّ عليها "التيار الوطني الحر" تماماً كما يصرّ على الحصول على حقيبة الأشغال. وتشير المعطيات إلى أنّ من الملاحظات التي سجّلها رئيس الجمهورية ​ميشال عون​ على الصيغة الحكومية الأخيرة التي قدّمها له رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري كانت تكمن تحديداً في هذه الحقيبة.

ويعتبر "المردة" أنّ حقيبة الأشغال هي من حقّه، انسجاماً مع بقاء معظم الحقائب الأساسيّة بيد أصحابها في الحكومة، مستنداً إلى كلامٍ قاله الوزير باسيل نفسه، حين أعلن أنّ حقيبتي الخارجية والطاقة هما من حصّة "لبنان القوي" في حكومة تصريف الأعمال ويجب أن تبقيا كذلك في الحكومة الجديدة، فضلاً عن أنّ الأمر نفسه يسري على الكثير من الحقائب، وفق كلّ التسريبات المُتوافرة. ويذهب "المردة" أبعد من ذلك باشتراط الحصول على حقيبة الأشغال أو الطاقة للدخول إلى الحكومة، لكنّه لا يعتبر خيار المعارضة وارداً، إذ يجزم أكثر من قياديّ فيه بأنّ الحكومة لا يمكن أن تُشكَّل من دونه.

وإذا كان "التيار" لا يسلّم بهذا الأمر، ويفرض "معركة" على حقيبة الأشغال، انطلاقاً من أنّ الوزير الحالي يوسف فنيانوس لم يقدّم الأداء "المثالي" في الوزارة، يتحدّث البعض في "المردة" عن "حملة مفتعلة" على الوزير فنيانوس، تفترض التمسّك ليس بالحقيبة فحسب بل بالوزير نفسه على رأسها. ولا يستبعد هؤلاء أن تكون كلّ الإشكالات التي ارتبطت بحقيبة الأشغال "مفتعلة"، خصوصاً لجهة ما حصل في مطار بيروت في الآونة الأخيرة، وتحميل الوزير المسؤولية الكاملة عنه، وهم لا يعتبرون انطلاق "الحملة" على الرجل في الشهر الماضي فقط، "عفوياً"، بل يربطونه بشكل مباشر بالصراع الحاصل على حقيبة الأشغال في الحكومة الجديدة.

شكلي ومؤقت...

بعيداً عن الصراع على الحصص، التي تتجلى حالياً في التناتش على حقيبة الأشغال، يبدو من الصعب لكثيرين استيعاب سبب "الخلاف الكبير" بين "التيار الوطني الحر" و"تيار المردة"، علماً أنّ الخلاف بدأ أصلاً بخلاف على الرئاسة، حين اعتبر فرنجية أنّ "التيار" هو من بدّد فرصه بالوصول إلى رئاسة الجمهورية.

ولأنّ هذا الخلاف أصبح من الماضي، ولم تُحلّ الإشكالات بين الجانبين، بل إن كل محاولات التوفيق بينهما بدت خائبة، ثمّة من يقول إنّه طالما أنّ عين فرنجية لا تزال على رئاسة الجمهورية، وعين الوزير باسيل كذلك على المنصب نفسه، فإنّ أيّ "مصالحة" بين الجانبين لن تحصل في المدى المنظور، بل إنّها إذا حصلت تحت الضغط، أو نتيجة لظروف سياسية ما قد تتطلب تقاربهما، لن تتعدى الإطار "الشكلي" و"الموقت" الذي لن يلبث أن ينتهي بعد حين...