باتت ​سوريا​ الحقل المشترك للمصائب الروسيّة، فبعد اسقاط ​تركيا​ لطائرة حربيّة روسيّة فوق الحدود السورية عام 2005 وما تبعها من مواجهة سياسيّة عالية السقف، ها هي ​روسيا​ تعاني مجدداً من اسقاط طائرة تابعة لها مع خسائر اكبر وصلت الى 15 من الجنود الروس، انما هذه المرة على يد الدفاعات السوريّة. ولكن روسيا سارعت الى اتّهام ​اسرائيل​ بالتسبب بهذه الحادثة، لان موسكو تدرك جيداً انها هي صاحبة الدفاعات السوريّة وهي من عمل على تدريب السوريين على استعمالها، كما انها تدرك "خبث ومكر" الاسرائيليين في هذا المجال (وغيره من المجالات)، لذلك عمدت الى افهام المسؤولين الاسرائيليين ان المسالة ستأخذ حجمها ولن تمرّ مرور الكرام.

وعند هذا الحد، رأى البعض ان المواجهة التركية-الروسية ستستعاد عبر مواجهة روسية-اسرائيلية، ولكن من المستبعد فعلاً الوصول الى هذا السيناريو، خصوصاً وان الاسرائيليين لم يعمدوا الى اسقاط الطائرة مباشرة انما استعملوا الاسلوب غير المباشر، كما انهم يدركون انه ليس من المحبذ اغضاب الدب الروسي في هذه المرحلة نظراً الى اهميّة وجوده الفعلي والمعنوي على الحدود من جهة، ونفوذه المتصاعد من جهة ثانية. اضافة الى ذلك، ليست اسرائيل بوارد تحدّي روسيا لانها تعلم انها ليست على قدر هذا التحدي، وان الردّ الروسي سيتخذ اشكالاً عدة وسيكون بشكل مباشر وغير مباشر على حدّ سواء، وقد تعلمت اسرائيل من الدرس التركي في هذا السياق.

على خط آخر، ليس لدى روسيا ايضاً الرغبة في تصعيد الموقف بشكل كبير، وهي اكتفت بـ"صفعة اليد" التي وجهتها لاسرائيل والكفيلة بوضع اسرائيل في وضع قلق، ولعل هذه الحادثة ستجعل الاسرائيليين اكثر حرصاً على ابلاغ الروس بعملياتهم العسكرية المقبلة في سوريا، لتجنب تكرار الحادثة والمعاناة من تداعياتها. وقد يشكل اسقاط الطائرة الروسيّة ورقة ضغط اساسية في يد موسكو لتوجيه رسالة الى اسرائيل مفادها انه لم يعد بامكانها استباحة الاجواء السورية كما كانت تفعل من قبل، وان اي حادثة اخرى ستعتبر مقصودة ولن يقتصر الرد على "صفعة اليد" عندها بل ستتكرر التجربة التركية وبشكل اكثر حدّة وقساوة.

من هنا، يمكن فهم الاعتذارات الاسرائيلية التي تم تقديمها، وتخفيف اللهجة الروسية بعد ساعات معدودة على الحادث، ولكن هذا لن يمنع الروس من المطالبة بالمعرفة المسبقة لايّ عمليات عسكرية تستهدف ​الاراضي السورية​، ليس فقط في الفترة الزمنيّة القصيرة المقبلة، بل خلال فترة طويلة كونهم سيبقون على الاراضي السوريّة بشكل شبه دائم. ومن المتوقع ان تستجيب اسرائيل للرسالة الروسية، علماً انها تعرف مسبقاً عدم قدرتها على الاعتماد على المساندة الاميركية بشكل فاعل في ظل الادارة الحاليّة، لان الرئيس الاميركي ​دونالد ترامب​ اثبت اكثر من مرة انه لا ينوي الدخول في اي احتكاك عسكري مباشر، كما انه ليس بوارد فتح جبهة مع روسيا لاي سبب كان او ارضاء لاي كان، وبالتالي ستجد اسرائيل نفسها وحيدة عملياً وميدانياً ولو انها ستحظى بدعم كبير من الناحية المعنوية والسياسية.

وعليه، يمكن القول ان الحادثة لن تتكرر، وان الضربات العسكرية الاسرائيلية ستكون اكثر تنسيقاً مع روسيا، بما يرسي مناخاً سياسياً وواقعاً ميدانياً جديداً قوامه فرض موسكو نفسها كحَكم فعلي لما يجري في سوريا، وعدم السماح لاحد بتخطيها مهما كانت الظروف، وهذا ما عرفته تركيا متأخّرة فعمدت الى الارتماء بالحضن الروسي بعد ان كانت هدّدت بمواجهة حامية مع الرئيس الروسي ​فلاديمير بوتين​، ومن المؤكد ان اسرائيل لن تقع في الخطأ التركي الذي ارتُكب عام 2005، وهي ستقرأ جيداً في الكتاب الروسي.